مصطفى يعقوب
مصطفى يعقوب

د

رحلة قصيرة جدًا في العالم الآخر !

كان نفقًا طويلًا ومظلمًا جدًا، لا صوت فيه إلا وقع خطواتي الخائفة والمترددة..

لم أعد أذكر كيف وصلت الى هذا المكان، فآخر ما أذكره هو أنني كنت أقود سيارتي بسرعة جنونية على الطريق السريع حينما اصطدمت بتلك الشاحنة وأنا أحاول الانتقال إلى المعبر المؤدي إلى المستشفى التي ستلد بها زوجتي..

آه صحيح تذكرت، زوجتي الآن وحدها في المستشفى وهي على وشك الولادة ويجب ان أكون بجانبها، لقد وعدتها بذلك ويجب ألا أخلف بوعدي لها أبدًا، لهذا السبب كنت أقود بتلك السرعة الجنونية دون انتباه، ولكن ما الذي حدث؟ و أين أنا الآن؟

كان رأسي ثقيلًا وكأنني صحوت للتو من حلمٍ طويلٍ جدًا.

ما زال صدى الأصوات المتداخلة والغير مفهومة يطنّ في أذناي، وجوهٌ كثيرة تعصف في ذاكرتي بسرعةٍ كبيرة كفيلم سينمائي، ولكن لا تلبث أن تتلاشى كقطع الظلام حينما تبددها أشعة الشمس عند الفجر.

فجأةً لاح ضوءٌ ساطع ذهبي في آخر النفق، نظرت جيدًا اليه، فرأيت رجلًا يقف في منتصف دائرة النور البعيدة تلك.

لم أستطع تحديدَ شكله أو ملامحه، فقد أعمى ذلك الضوء القادم من خلفه عيناي، ولم أعد أراه إلا شبحًا أسودًا بلا تفاصيل.

تقدمت أكثر باتجاهه وكأنّ قدماي تسيران بي إليه بشكل آلي دونما إرادة مني.

توقفت فجأة لوحدهما أمامه حينما وصلت لطرف ظله المنعكس على أرض النفق..

سرت في جسدي قشعريرة لم أعرف لها سببًا.

وفي منتصف الغرابة والضياع الذي اعتراني، بدّدَ صوته الرخيمُ صمتَ الدهشةِ قائلًا:

-وأخيرًا وصلت.

-من أنت؟ وأين أنا؟ صرخت بصوتٍ مكتومٍ ومتعب.

فأجابني على الفور: هنا لا يوجد معنى لكلمة أين، ولا لكلمة مكان، هنا هو اللا مكان..اللاشيء.

ازداد الألمُ في رأسي، وأصبحت ذكرياتي تبدو بعيدةً أكثرَ وأكثر..

سألته مرةً أخرى: وكيف وصلتُ إلى هنا؟

فأنا أذكر أنني كنت أقود سيارتي و …

فقاطعني :

انت لم تدرك حقيقة ما حدث لك إلى هذه اللحظة..

أخافتني نبرة صوته حينما نطق بتلك الكلمات، ربما أخافتني حقيقة ما كان يعنيه من خلف تلك الكلمات..

-هل أنا ميت؟ صرختُ بأعلى صوتي..

فأجابني بكل برود: نعم، أنت ميت.

نظرت حولي، لم أرَ إلا الظلام، وهذا النور الذهبي الذي يتدفق من خلف هذا الرجل الذي لا أعرف من هو أو ماذا يريد.

-ومن أنت؟ سألته.

فأجاب على الفور: ومن تظنني قد أكون؟

فقلت بعصبية : لا أعرف، لم أعد أعرف شيئًا أبدًا..

وأردفت: هل أنت ملاك؟

فأجاب: وهل أبدو لك كملاك؟

فرددت بعصبية أكثر: قلت لك لا أعرف فأنا لم أر ملاكًا من قبل.

سكتُّ قليلًا، ثم سألته:

-وهل هذه هي الحياة التي ما بعد الموت؟

فأجاب: لقد قلت لك، هنا هو اللامكان، اللاشيء.

فسألته: إذاً، ماذا بعد؟ هل هذا كلّ شيء؟

فقال: لا تستعجل الأمور، فأنا لم أقل لك أن هذا هو كل شيء.

حاولتُ أن أقترب منه أكثر، ولكنّي لم أستطع التحرك، وكأنّ قدماي قد تحولتا إلى حجارة ملتصقة بالأرض.

سألته: وماذا حدث لزوجتي هل ولدت؟ هل هي بخير؟

فأجاب: وما شأنك بها، يجب أن تتعود على أنّك ميت، يجب أن تنضج، و عليك القيام بمهام أخرى الآن.

فسألته على الفور: وماهي هذه المهام الأخرى؟ ألم ينتهي كل شيء بعد؟

فأجاب بعد أن صمت لبرهة: سأعيدك للحياة مرّة أخرى ولكن بصورةٍ جديدة.

فأجبت على الفور: إذًا تناسخ الأرواح صحيح؟ ونحن الذين كنّا نسخر طوال الوقت من المؤمنين به، الهنود الملاعين كانوا على حق.

فقال: لا، هو ليس تناسخٌ للأرواح ما قصدته بعودتك.

– إذًا ما هو؟ ماذا تقصد؟

فأجاب: لا يوجد إلّا أنت وأنا في هذا الوجود، لا نسخ أخرى.

-كيف ذلك؟ ومن أين أتى كلّ هؤلاء الناس الذين تركتُهم خلفَ ظهري بعد أن مت؟

فقال: كلّهم أنت.

رددت متعجباً والدهشة تجتاحني: كلّهم أنا؟ كيف؟

أنا لم أعد أفهم شيئًا مما تقول.

فقال: لقد أجرينا أنا وأنت هذا الحوار لعدد لا نهائي المرات، أنت فقط لا تذكر ذلك، ولكن حينما تصبح جاهزًا، ستتذكر كل شيء.

فسألته مرّة أخرى والفضول يغمر عقلي: أنت تقول أن كل الناس هم أنا؟ وهل هذا يشمل حتى الذين ماتوا؟

فأجاب: نعم، كلّهم بلا اسثناء..

فسألته مستغرباً: هل أنا أمي وأبي وزوجتي و طفلي الذي سيولد و جدي وجدتي وأقاربي و غاندي وهتلر وإينشتاين و كيم كاردشيان والبغدادي وتشارلي شابلن و ….

فقاطعني: لا تتعب نفسك بسرد الأسماء، قلت لك كلّهم انت، كلّهم بلا استثناء.

ثم أردف: كن مستعدًا، سوف أعيدك إلى تاريخ 1598 قبل الميلاد لتكون امرأة في قبيلة في أحد غابات إفريقيا.

فصرخت: ماذا قلت؟ قبل الميلاد؟ كيف؟ ألم يموتوا؟

فقال بعد أن صمتَ قليلًا:

لا معنى للزمن بالنسبة لي أو لهذا المكان الذي نحن فيه الآن، فالزمن يسير بشكل خطي وبإطراد فقط بالنسبة لشعورك أثناء حياتك فيه، أما واقع الأمر وحقيقته فلا معنى لكلّ ذلك.

لا معنى لميّت أو حي..

ولا معنى للقرب أو للبعد..

الزمن هو الخدعة التي نسجتها في هذا الكون لتحجب الحقيقة.

أما بالنسبة لي فكلكم موجودون في اللحظة نفسها.

ثم أردف: أنا وأنت مثلاً، نجري هذا الحديث مليارات المرات في كل لحظة، وأنا أعيد إرسالك الى فترات زمنية مختلفة في كونكم هذا مليارات المرات وفي اللحظة نفسها التي نتكلم فيها أيضًا، لذلك قلتُ لك بأنّك كلّ أولئك البشر الذين سكنوا هذا الكون.

ولادتك ماهي الا ارتداء جسد فان، وموتك ما هو إلا خلعه.

قد ترتدي عددًا لا نهائيًا من الأجساد، ولكن لاشيء داخلها سوى جوهرك وحقيقتك هذه..

لا شيء سواك أنت وحدك..

بدأت بعدها أشعر بالدّوار والتخبّط، فأنا لم أعد استوعب شيئًا أبدًا.

إنني أشعر بضياع رهيب يعتريني، وخوفٌ ممزوجٌ بثقةٍ لم أعرف من أين ولدت وسط كل هذا الخوف والدّهشة.

سألته مرة أخرى: ولماذا كلّ ذلك؟ ما الغاية؟

فردّ بصوته الهاديء و الواثق:

الغاية هي أن تصبح جاهزاً للولادة.

فقلت باستغراب: ولادة؟

ألم تقل إني أولد ملايين المرات في كل لحظة؟ فعن أي ولادة تتحدث؟

فقال: ليس هذه الولادات الكونية ما أقصده، بل الولادة السماوية.

فقلت: الولادة السماوية؟

ماذا تقصد؟

فأجاب: هذا الكون الذي تراه ماهو في حقيقته إلا رحمًا ينتظر اكتمال نمو الجنين في أحشائه ومن ثمّ ولادته.

فقلت: الجنين؟ أي جنين؟

فقال: جنينك أنت، فبعد أن يكتملَ دورك في هذا الكون، وتدرك حقيقتك، عندها سيحين موعد ولادتك الحقيقية لتقوم بمهمتك الحقيقية والوحيدة في هذا الوجود.

فسألت: أي مهمة؟

فأجاب: أن تأخذ مكاني هذا.

فهتفت في دهشة وحيرة: مكانك؟

فقال: نعم.

فسألته: وأنت؟

فأحاب: سأكون أنت، فولادتك هي ولادتي الحقيقية أيضًا، أنت مرآتي، وانأ لن أرى حقيقتي إلا من خلالك.

فقلت: لم أعد افهم شيئًا، ماذا تقصد من كل هذا؟

فأجاب: لن تفهم حتى تكون جاهزًا وتولد، حينها لن تحتاج الى السؤال أبدًا، ستفهم كل شيء..كل شيء..والآن حان موعد عودتك.

في هذه اللحظة بدأ الضوء القادم من خلفه يصبحُ أكثر سطوعًا حتى تلاشى شبحه في داخله ولم أعد أستطيع النظر إليه، وفجأة سمعت صوتاً يقول: هل تستطيع أن ترى الضوء؟ هل تسمعني؟

لقد كان مصباح الطبيب وهو موجه لعيناي..

يا الهي أنا لست ميت ..

أكمل الطبيب الذي يحمل المصباح: لقد كتب لك عمرٌ جديد، فقد توقف قلبُك و فقدناك للحظات، ولكن الحمدلله أنه عاد للخفقان مرةً أخرى.

لقد كنت أشعر بألمٍ فظيعٍ في صدري ورأسي وكل جسدي،سألته بتثاقل: أين أنا؟

فقال: في سيارة الإسعاف، ونحن في طريقنا الآن إلى المستشفى لنجري لك بعض الفحوصات ونتأكد من سلامتك وعدم وجود أي نزيف داخلي في جسدك أو رأسك..

مرت عدة سنوات على تلك الحادثة ولكني مازلت أذكر تفاصيلها بكل دقة وكأنها حدثت منذ لحظة، وقد حولتني لإنسانٍ آخرَ مختلف تمامًا عن الإنسان الذي كنته قبل ذلك..

ذلك الحوار الذي أجريته في العالم الآخر غير نظرتي للكون إلى الأبد..

فقد أصبحت انظر إلى هذا الوجود نظرة مختلفة جذريًا، فأنا اليوم أرى في كلّ النّاس صورًا أخرى مني، فلم أعد أغضب أو أحزن أو أحمل حقدًا على أحد..كما أنني أدركت أنه حينما أسيء لأحد فإنني في الحقيقة أسيء لنفسي، وحينما أبعث الفرح في قلب أحد فإنني أبعثه في قلبي أيضًا.

أصبحت كمن يعيش وحيدًا في عالمٍ كبيرٍ جدًا، مملوءٍ بالمرايا، مرايا مختلفةً في الأحجام والأشكال والألوان والتّحدب، فمهما كبرت الصورة المنعكسة فيها أو صغرت، أو كانت جميلةً أو تشوّهت فهي في النهاية ماهي الا انعكاس لصورتي أنا، وكل ما دوني مجرد وهمٍ مهما تعدد لن يمس حقيقتي.

لقد حولتني هذه الحادثة إلى ملك..

ملك لهذا الكون..

ولا أحد ينازعني على ملكه سواي..

لا أحد..

مستوحاة من قصة البيضة لأندي واير (بتصرف)