منى فتحى
منى فتحى

د

لم نكن يوماً أصدقاء

ألا ترى معي أنه من الغريب أن نرتجف برداً عندما ترتفع درجة حرارتنا؟!  فكيف لجسد ساخن أن يشعر بالبرد؟!

أمر غريب وغير منطقي ولكني لستُ في حال يسمح لي بالبحث عن منطقية الأمور،  فقد إستيقظت بسبب ألم شديد في الحلق وصداع عنيف، مع رجفة قوية مصحوبة بأنفاس مشتعلة.

بقيت في نفس موضعي بالفراش، آملة أن يكون كل ما أشعر به من ألم هو بقايا كابوس، كابوس آبى عليه غروره أن يسمح لي بالفرار.

مرت ثوانٍ تحولت لدقائق تأكدت بعدها  أني متيقظة تماماً وأعاني من نزلة برد قوية، لازلت راقدة غير قادرة على رفع رأسي عن وسادةٍ عجزت عن تخفيف الآمي، مددتُ يداً تعرف طريقها نحو الهاتف في ظلام الحجرة الدامس، نظرت للساعة فبادلتني النظر مُعلنة عن توقيت يُشير إلى الرابعة وعشر دقائق صباحاً.

أمامي تقريباً  أربعة ساعات قبل أن يحين موعد ذهابي للعمل، أربعة ساعات لابد وأن تتحسن فيها حالتي، فلا إمكانية للغياب في مثل هذا الوقت من العام، حيث يعمل الجميع  على قدمٍ وساق لإغلاق وتسوية دفاتر العام المُنصرم.

على ضوء المصباح المنضدي ساكن الجوار،  أبحث بين أشيائي بلهفة ، عن خافض حرارة ومسكن سريع للألم، لتردد في ذهني كلمات والدي “لا مسكنات على معدة فارغة” أتحامل على نفسي لأنهض، أدُس قدمي الساخنة في الخف البارد، لأتوجه بخطواتٍ مُتعَبة نحو المطبخ.

بيدٍ ترتجف أمزج عصير الليمون مع العسل والقليل من الماء في كوب زجاجي، أحمل المزيج بحرص لأعود للفراش هذه المرة بخطواتٍ مُنهَكة.

تتساقط القطرات في حلقي فتزيد نيرانه إشتعالاً،  أتذكّرني طفلة ترفض بعيون دامعة تناول المزيد من العسل والليمون، مُخبرة والدتها في رجاء طفولي أن المزيج يؤلم حلقها أكثر، لتُجيب والدتي “معنى الألم أن العلاج فعّال وسيقضي على المرض”.

تدفع الذكرى شعور بالراحة وسط الألم، فأحاول تناول المزيد، بينما أربت على حلقي بين كل رشفة وأخرى لعله يهدأ قليلاً.

يمر الوقت دون أي تحسن ملحوظ، ومع ذلك أوهم نفسي أني أفضل وأمد يدي المرتجفة خوفاً من نتيجة تعرفها مسبقاً، أتناول ميزان الحرارة، تمر الدقائق بطيئة أنهيها قبل أن تتم الدقيقة الخامسة دورتها كاملة، أنظر للقراءة بعيون يملأها الرجاء أن تكون حرارتي  أقل من ثمانية وثلاثون درجة، لتصفعني القراءة تسعة وثلاثون مرة….. ونصف!

أحمل رأسي بين يدي وأتوجه بها لأسقطها كاملة تحت الماء البارد، ترتجف وتحاول الفرار فأحكم قبضتي حولها أكثر، أفكر في ملفات عمل مفتوحة تنتظرني لأغلقها، فأستمد مزيد من القوة لأُبقي رأسي تحت سيل الماء البارد لثوانٍ إضافية.

أطلق سراحها أخيراً لتنطلق نحو المنشفة المعلقة، تعانقها لتجفف عَبَرات مثلجة سبق وغمرتها بها قبل قليل.

أسقط لاهثة فوق الفراش، أغفو أفيق أغفو مرةً أخرى، كم مر عليّ من الوقت، أيام.. أسابيع.. لا أدري ولكنه وقت طويل، طويل جداً جداً، يخرجني رنين الهاتف من هذياني، لا ليس رنين الهاتف إنه المنبه، الساعة الآن السابعة موعد الإستيقاظ اليومي للذهاب للعمل…. لم يمر سوى ثلاث ساعات فقط!!

لعلك أدركت معي الآن أن أي محاولة مني للذهاب للعمل هي نكتة غير مُضحكة على الإطلاق، فإن وصلت سالمة لمكان عملي وهو إحتمال ضعيف جداً، فلن أستطيع خط جملة واحدة لها معنى،  أفضل الحلول أن أنتظر حتى الساعة الثامنة لأهاتف صديقتي ورئيسي المباشر لأعتذر  عن الحضور اليوم وربما حتى نهاية الأسبوع.

إنتظرت الثامنة مابين غفوةٍ وإفاقة، لأُخبر صديقتي بصوتٍ تجلّت به معالم الألم كوني غير قادرة على الحضور اليوم، بذهن مشوش إستمعت لكلمات تحمل لوم صديقتي لي، أعلنت في نهايتها أن تقييم عمل الموظف عن عامٍ ماضٍ يتم تحديده في  بداية عامٍ يليه، أخبرتها  راغبة في الخلاص منها قبل رغبتي في الدفاع عن مجهود عام مضى، أن عملي شبه منتهي ودفاتري لا تحتاج إلا  لرتوش نهائية تجميعية  بسيطة، ردت على الفور “وليكن.. العبرة في النتيجة النهائية ودقة ميعاد التسليم”.

ثم أنهت حديثها موضحة لي أني خذلتها، لتوجه اللوم لنفسها على منحي فرصة عمل يسعى خلفها من هم أجدر مني بها وأكثر إلتزاماً.

مر يومٌ طويل لا أذكر منه إلا تحسُّن حالتي الصحية قرب نهايته، وسوء حالتي النفسية في المقابل.

جاء اليوم الجديد يحمل بشارة الشفاء، حاولت إدعاء قوة لا أملكها إلى أن أجهشت السماء بالبكاء، لم أستطع الصمود أكثر وبكيت معها، لا أبكي عمل على وشك الإنتهاء، ولا أبكي مجهود عام يضيع، بل أبكي صديقتي، أبكي ساعات إنتظرت فيها كلمة طيبة، سؤال عن صحتي، لم أنتظر منها أن تتراجع عن ما سبق وقالته عن عملي رغم رفضي الكامل له، ولكني إنتظرت تنحي رئيسي المباشر الذي سيسمح لصديقتي بالظهور، إنتظرت طويلاً  ولازلت أنتظر.

قبل إنتصاف النهار كانت الشمس قد بددت كامل غيوم السماء، فحملتُ بيدٍ باردة كوب ليمون ساخن وجلست أنعم بشمس أشرقت بحنوٍ دافىء تاقت له نفسي المرتجفة.

مع مرور اليوم كنت قد نجحت أن أخرج العمل من رأسي تماماً، إلا أن العمل كما يبدو لم ينجح في ذلك، فقبل نهاية اليوم تلقيت مكالمة من أحد زملاء العمل، يسألني فيها عن إمكانية حضوري غداً، إبتسمت ساخرة في قرارة نفسي من قدرٍ يأبى المرور دون إضافة لمسته الدرامية، فغداً سيكون مر على عملي عام كامل، لا بأس إذن من الحضور وتقديم إستقالتي ليحمل نفس التاريخ ذكريات العمل المتناقضة.

نعم أنا أملك رفاهية ترك العمل عند شعوري بالإنزعاج، وهو أمر غير جيد على عكس ما يبدو، فحاجتنا هي ما تصنع قدرتنا الحقيقية على الصمود والمواجهة، بينما تحوّل الرفاهية أي قوة نملكها  لزجاج يسهل تدميره فيترك بنا ندوباً لن تطيب.

في صباح اليوم المنشود كنتُ قد أعددت إستقالتي وتهيأت تماماً للملمة أغراضي المتناثرة هنا وهناك، إلا أنني حين وصلت للعمل وجدت ملفاتي كاملة وجاهزة للتقييم والمراجعة، فتوجهت نحو صديقتي أنوي الإعتذار لها بينما أشعر بالخجل الشديد من نفسي، فقد إنتظرت منها كلمة طيبة ولكنها قدمت لي الفعل بديلاً، إلا أن مفاجأتها عند رؤية عملي مكتمل جعلتني أتراجع  عن كل ما نويت قوله.

من أكمل عملي إذن؟!

بالتأكيد من هاتفني بالأمس هو من أكمل العمل، لم أحفظ اسمه بعد!
بعيون شاكرة توجهت نحو مكتبه ليبادرني قائلاً، عملك كان شبه منتهي ولم يأخذ منّا الأمر إلا ساعة إضافية قضيناها بالأمس بعد إنتهاء أوقات العمل الرسمية.

“منّا.. قضيناها” طلّت الكلمات بعيني قبل أن أنطقها، فأشار بيده نحو باقي زملاء الغرفة الأخرين، مجيباً بإشارته تلك على سؤالي الذي لم أطرحه بعد.

حقاً لا أعرف ماذا أقول،  لم أجد إلا عبارات شكر مفعمة بالخجل، وجهتها نحو أفراد المجموعة التي لازلتُ بعد سنة كاملة لم أتعرّف عليهم كما يجب، مدركة تماماً أننا ربما لم نكن يوماً أصدقاء إلا أننا اليوم قد أصبحنا.. فالصديق هو حقاً من يظهر وقت الضيق.