منى فتحى
منى فتحى

د

أين ذهبت أيامي؟

أحب بدايات الأيام، تحديداً وقت الشروق، أخرج للشرفة مصطحبة فنجان شاي، تتلهف نسمة هواء باردة لمعانقة أبخرته الساخنة طلباً للدفء، أراقب عناقهما الحار للحظات تبدو طويلة، إلى أن تقرر الشمس أن تبدد كامل ظلمة الليل، لتمنحني دقائق غالية من النور الخالص، قبل أن تبدأ في نشر جنودها اللاهبة في كل مكان.

بدايات الأيام وبدايات الأيام فقط هي التي تسمح لي أن أقلّب روحي بحثاً، أقلّب وأقلّب هنا وهناك، ربما وجدت فكرة تصلح لقصة جديدة مختبئة داخل صفحاتي الساكنة والمطوية بعناية.

أو قد تأتي فكرة مع عصفورة، حطت على جداري تغني سعياً للرزق.

وربما تأتي مع قطرة الندى الكبيرة، التي ظنت صبّارتي ورقات شجر ناعمة، فسقطت على أطرافها مطمئنة، لتباغتها الأشواك ساكنة الأطراف بطعنات غادرة، مفتتة كيانها الكبير لكيانات أصغر وأصغر.

أفكار أفكار أفكار، تدور كلها في فلك هادىء جميل، ولكن فلكي اليوم يحمل القليل من الإختلاف، المكان هادىء كالمعتاد ولكني ثائرة نوعاً، ثورة كامنة لم تصل بعد لدرجة الإنفجار في الوجوه، وراضية بالإنفجار الورقي.

دعني أخبرك أولاً بسري الذي يعرفه كل من يعرفني، قبل أن أخبرك بسبب ثورتي.

أنا أعشق الثلاثينات، التي أقتربت من عبور منتصفها الأول بسلام، أجد الثلاثينات هي عِقِد المرأة المثالي، فالمرأة يا عزيزي كيان مزدحم بالأفكار والمشاعر والميول والإتجاهات الكثيرة التي لا تتضح صورتها الكاملة إلا عندما تخطو المرأة لعالم الثلاثينات السحري.

بدأت هنا وبدأ معي الكثيرات كما أظن، في وضع الخطوط العريضة تحت كل ما أخترت أن أظل عالقة معه، وتخلّصت تماماً من مراهقتي التي كانت تشغل في مساحاتي الحيز الأكبر والأكثر فوضى فأصبحت أملك بعض المساحات الشاغرة، فبتُ أكثر إستقراراً وهدوءً  وتحديداً لإهدافٍ كِدتُ معها العودة للمقاعد الدراسية  التي لم أرغب يوماً في النظر إليها.

لمَ إذن بعد كل هذا العشق، وكل تلك المصالحة شعرت بالضيق وربما الغضب من جملة واحدة أطلقتها إبنة جارتي في وجهي، عندما سألتني والدتها أن أساعدها في مراجعة بعض المواد الدراسية التي وجدت إبنتها بعض الصعوبة في تفسيرها.

إنتظرت الفتاة لتأتي في اليوم المحدد، الساعة الآن الثامنة مساءً، وصلنا للتاسعة ثم العاشرة، أصبحنا الآن في العاشرة والنصف، أحتاج لأن أشرب مشروب دافيء وأقرأ قليلاً لأنام، ولكن أين هي الفتاة؟!

إتصلت بوالدتها لأعرف سبب التأخير، فأجابتني معتذرة عن التأخير، بأن إبنتها وصلت الآن من كليتها بعد أن أنتهت محاضراتها في العاشرة.

“أي محاضرات تلك التي تنتهي في العاشرة؟! إن الجامعة تغلق أبوابها في الثامنة مساءً!”  خرجت الكلمات من فمي دون أن أفكر، ربما فكرت قليلاً لأكون صادقة معك، ولكني لا أقبل عدم إحترام المواعيد المحددة ثم إطلاق الأعذار الواهية كمبرر ساذج وتسديد خانات بأي هراء.

قبل أن تجيب جارتي سمعت طفلتها تصيح “ده كان على أيامكوا ياطنط”.

“أيامكوا ياطنط” ظلت الكلمات تدق في جوانب رأسي ككرة قُذفت بقوة في مكان ضيق فأصبحت تتخبط في الجدران بجنون تريد الخلاص.

ماذا أفعل معها تلك البليدة التي تنتظر “طنط” لتشرح لها الدرس؟! ربما أدس لها معلومة دراسية خاطئة! حسناً حسناً أعرف أنه لايصح فهناك ضمير مهني يقظ سيجعل حياتي جحيماً إن فعلتها، فمن على أيامي يملكون ضمير!

الأمر لايستحق، سأنسى الجملة البغيضة تلك وأكمل حياتي التي أحبها، ولكن لحظة هل ولت أيامي حقاً؟

بالطبع لا..  فأنا أملك كل مقومات الحياة، أستطيع التعامل مع التغيرات الواقعة بسرعة لكل الأمور ، حتى تلك الأمور التي لازلنا لم نألفها بعد.

ربما بت لا أستطيع السباحة لأكثر من ساعة بعد أن كنت أستمر لأربع ساعات قبل أن يأتي من يسحبني جراً من المياه.

كما بدأت لا أرحب بالخروج وأصبح  البقاء في المنزل محبباً لي أكثر.

لم أعد أيضاً أتقبل الأغاني الشبابية السريعة، وأفضل الإستماع لأغاني فريد الأطرش.

كما باتت الأصوات العالية والأماكن المزدحمة التي كنت أعشق بهجتها والتواجد بها من قبل تزعجني.

يا للهول أنا أصحبت أعشق الجلوس على الكنبة ومتابعة المسلسلات.

ماذا يحدث لي؟؟ يبدو أنها حقاً لم تعد أيامي.. أنا متأكدة أني أكره تلك الفتاة الآن.

الآن أنا أتذكر تلك السيدة التي إستقلت معي يوماً سيارة الأجرة وأنا في طريقي للمنزل بعد أن أنهيت محاضراتي، كانت سيدة ثلاثينية لفت نظرها كتاب أحمله بعنوان “الأساليب الكمّية” لطلاب الفرقة الثالثة بقلم دكتور جلال العبد، فإبتسمت إبتسامة حنين قائلة “جلال العبد أصبح دكتور الآن على أيامي كان لازال معيداً”.

ربما حقاً صدقت الفتاة التي لازلت أكرهها بالمناسبة، فتلك هي أيامها وجامعاتها ومحاضراتها، فقد ولت أيامي أنا.

كل ما أرجوه أن تكتفي الجامعة بموعد العاشرة لإغلاق أبوابها، فلا أحد يرغب في محاضرات بعد منتصف الليل، تكفينا جداً  أسطورة بعد منتصف الليل لكاتب الشباب الباقي في قلوبنا دائماً وأبداً الدكتور أحمد خالد توفيق، عليكم الآن أن تذكّروني أن أقرأ تلك الأسطورة الليلة، فأنا أصبحتُ أنسي كثيراً هذه الأيام!