الحرية لا وطن لها، الحرية سماء، والسماء وطن الجميع: قراءة في رواية كوخ العم توم
«لا يوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والاجتماعية ثراء الجنس البشري، ولا يوجد ما هو مثل الأدب لكي يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. صحيح أن قراءة الأدب مصدر للمتعة، ولكنه أيضًا مصدر لمعرفة أنفسنا وتكويننا عبر أفعالنا وأحلامنا وما نخاف منه بكل عيوبنا ونقائصنا، سواء كنا لوحدنا أو في خضم الجماعة، وسواء كانت تلك الملاحظات تبدو ظاهرة للعيان أو تقبع في أكثر تجاويف الوعي سرية. هذا المجموع المعقد من الحقائق المتعارضة – كما يصفها أشعيا برلين – يشكل جوهرًا للحالة الإنسانية.
في عالم اليوم، لا يوجد هذا المجموع الضخم والحي من المعرفة في الإنسان إلا في الأدب. لم تستطع حتى فروع العلوم الإنسانية الأخرى – كالفلسفة أو الفنون أو العلوم الاجتماعية – أن تحفظ هذه الرؤية المتكاملة والخطاب الموَحَّد. خضعت العلوم الإنسانية أيضًا لتقسيم التخصصات السرطاني، وعزلت تلك التخصصات نفسها في أقسام مجزأة وتقنية بأفكارٍ ومفرداتٍ لا يستوعبها الشخص العادي.
يود بعض النقاد والمنظرين تحويل الأدب إلى علم، وهذا ما لن يحصل أبدًا، لأن الكتابة القصصية لم توجد لتبحث في منطقة واحدة من تجربة الإنسان. وُجدت الكتابة لكي تثري الحياة البشرية بأكملها من خلال الخيال، والتي لا يمكن تفكيكها، أو تجزئتها إلى عددٍ من المخططات أو القوانين دون أن تضمحل. هذا ما قصده مارسيل بروست حينما قال أن “الحياة الواقعية، هي آخر ما يكتشف وينوَّر. وأن الحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها هي الأدب».
اقرأ أيضًا:
هل قراءة الروايات مضيعة للوقت حقًا؟ نظرة على الفَنّ الأكثر تأثيرًا في التاريخ الإنساني
مدى تأثير الأدب وفن الرواية
على هذا النحو، يرد يوسا على كل من نسي أو تناسى يومًا أن هذا الأدب هو قوت الثورة وعنوان التمرد وميثاق التحرر من كل ما كان ومازال يقيد الجوهر الإنساني ويعيق خطواته.
هذه الروايات التي قد نجدها للأسف اليوم ملقاة في رفوف المكتبات العمومية وقد غطاها الغبار والتهمتها شبكات العناكب مثلت في وقت ماض منعرجًا تاريخيًا غيّر مسار الإنسانية، متؤثرة في كل رقعة جغرافية بخصوصيتها التاريخية والاجتماعية والسياسية.
رواية كوخ العم توم للمؤلفة هارييت بيتشر ستو
من بين هذه الأعمال الأدبية الاستثنائية، اخترنا أن نكتب عن رواية كوخ العم توم Uncle Tom’s Cabin للمؤلفة الأمريكية هارييت بيتشر ستو، وهي الرواية التي كانت بمثابة صرخة الحياة الأولى لفئة كبيرة من الأمريكيين وشاركت في قرع طبول الحرب الأهلية الأمريكية.
– «ليته لم يولد قط! وليتني لم أولد أنا أيضًا!»
– «أصبر؟ ألم أتحمّل وأصبر طوال هذه المدة؟»
– «حسناً، إنه لشيء فظيع. ولكن الرجل على أية حال هو سيدك».
– «سيدي! ومن الذي جعله سيدي؟ ذلك ما يقضّ مضجعي. أي حق له عليَّ.؟ أنا إنسان بقدر ما هو إنسان. بل إنني خير منه. فأنا أعلم منه بالتجارة، وفي ميسوري أن أقرأ أحسن مما يقرأ، وأن أكتب بخط أجمل من خطه. لقد تعلمت ذلك كله بنفسي ولم يكن له أيما فضل عليَّ في هذا. بل لقد تعلمت بالرغم منه. والآن بأي حق ينتزعني من عملي ويحملني على القيام بأعمال يستطيع أي حصان أن يقوم بها؟».
دار هذا الحوار المحزن بين “جورج” وزوجته اللذان كانا ملكًا لأسرتين مختلفتين واللذان عانا الأمرّين بسبب لونهما وأصولهما الأفريقية.
كان العم توم أيضًا عبدًا مثلهما، يباع ويشترى في أسواق النخاسة بالرغم من طيبة قلبه وإخلاصه لصاحبه حتى أنه كان كلما سألوه لِمَ لا يهرب؟ قال:
«لقد وضع سيدي ثقته في وقد وعدته بأن أعود وليس من خلقي أن أغدر أو أخلف بوعد».
ولم يكن سيده، السيد شلبي، ينوي بيعه ولكنه أجبر على ذلك لتسديد الديون التي عليه عند السيد هيلي.
واجه العم توم الطيّب هذا الخبر بصدر رحب وبخنوع شديدٍ وانتقل مع عبيد آخرين بين الولايات، على متن سفينة كبيرة تعنى بنقل الزنوج ليبعهم بأغلى الأثمان حتى تعرّف على فتاة صغيرة فائقة الجمال والرقة شبهها بالشيء الإلهي تدعى “إيفانجيلين”.
كانت هذه الصغيرة ذات الشعر الذهبي كخيوط النهار والعينين الزرقاوين كزرقة المحيط تركب السفينة نفسها مع أبويها، وقد جمعتها بالعم توم علاقة صداقة نقية جعلتها تطلب من والدها السيد كلارك شراء توم لتسطيع بعدها تحريره وعتق رقبته.
كانت إيفا، كما تفضّل أن يناديها الجميع، تفوق في إنسانيتها كل أولئك الذين يكبرونها سنًّا وكانت ترى أننا نستحق أن نبتسم ونرقص ونكون سعداء. وجودها في الرواية كان يدحض مقولة الدكتور أحمد خالد توفيق الذي يقول في أحد أعماله:
«أما السعادة فلا أحد يكتب عنها. نحن نعيشها في جشع و لا نشارك فيها أحدًا».
لكن صداقة إيفا والعم توم لم تدم طويلًا جرّاء مرض لعين أطاح بالصغيرة، التي تركت وصية واحدة لوالدها تطلب منه فيها عتق الرق الذين كانوا يخدمونهم في البيت، ولم تقتصر الوصية على عبيد المنزل بل شملت دعوة لتحرير كل العبيد في أمريكا، فقالت:
«أوه، هذه الأشياء التي تُعمل كل يوم. إني أتألم لهؤلاء البائسين الذين يحبونني كل هذا الحب والذين يبالغون في الاحتفال بي والإحسان إليّ. كم أتمنى، يا بابا، لو أراهم كلهم أحراراً».
السعي إلى تحرير الأفارقة الأمريكيين
بعد موت إيفا، تبعها السيد سانت كلار بعد أن طعن بسكين ومات معه حلم الحرية. هكذا، سيق توم مجددًا إلى سوق الرقيق واشتراه في آخر المطاف سيد متغطرس وقاسي القلب تفنن في تعذيبه حتى أجبره على ملاقات صديقيه إيفا وسانت كلار.
لم تعلم عائلة السيد شلبي بهذا الخبر إذ قرر ابنهم “جورج” أن يبحث عن العم توم ويرجعه إلى زوجته وأطفاله ولكنه لم يجده وتحول حدث موت العم توم من حدث تراجيدي إلى انتفاضة ضذ العبودية، إذ عمل “جورج” على تحرير الأفارقة الأمريكيين من سلاسل العبودة والطبقية.
«انطلقوا إلى الحرية؛ ولكن تذكّروا أنّكم مدينون لذلك الرجل الطيب العم توم، وردّوا ذلك الجميل لزوجته، وأبنائه، وفكروا بحريتكم كلّما رأيتم كوخ العم توم، واجعلوه نصباً تذكارياً؛ لكي تسيروا على خطاه وكونوا مؤمنين؛ وأوفياء كما كان».
إذًا هذه السيدة الصغيرة هي المسؤولة عن تلك الحرب الكبيرة!
هارييت بيتشر ستو
كتبت هارييت بيتشر ستو هذه الرواية الواقعية سنة 1852، وقد حققت نجاحًا كبيرًا، فبيعت 300،000 نسخة منها في الولايات المتحدة ومليون نسخة أخرى في بريطانيا.
كانت هارييت أو السيدة الصغيرة كما ناداها الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن Abraham Lincolin في لقائه بها في البيت الأبيض تعمل مُدرِّسة في مدرسة هارتفورد للفتيات وكانت تهتم بكبرى القضايا الاجتماعية والسياسية، خاصة قضية العبودية.
تأثرت بكتاب The Life of Josiah Henson, Formerly a Slave, Now an Inhabitant of Canada, as narrated by himself الذي نشر سنة 1849، فأخذت منه ملامح شخصية “العم توم” دون أن تعلم أنها بصدد رسم ملامح حرب أهلية.
نشرت رواية كوخ العم توم للمؤلفة هارييت بيتشر ستو في بداية الأمر على شكل حلقات أسبوعية في صحيفة المعارضة للاسترقاق، ثم جمعت في كتاب واحد بالرغم من الوضعية الاقتصادية والاجتماعية المعقدة آنذاك.
رواية كوخ العم توم والفوز برهان إلغاء الرق
بمجيء الأوروبيين إلى “العالم الجديد” سنة 1492، حلّت لعنة مقيتة على السكان الأصليين لأمريكا، الذين تمت إبادتهم والتنكيل بهم. القضاء على 95% من هؤلاء المساكين أدّى بالمستعمر إلى اختطاف الأفارقة واستعبادهم وذلك لتوفير يد عاملة رخيصة، قام عليها الاقتصاد الأمريكي.
لكن مقومات الاقتصاد تلك لم تظل كما هي بعد التغيرات التي أنتجتها الثورة الصناعية في الفترة الممتدة بين 1850-1750 والتي ساهمت في تقسيم أمريكا حسب المنوال الاقتصادي إلى ولايات في الشمال تدعو إلى رفض العبودية وأخرى في الجنوب ترفض إلغاء الرق.
وتشكلت هنا ملامح حرب أهلية دامت 4 سنوات هرب خلالها العبيد من الجنوب إلى الشمال وتمردوا على القوانين الجائرة بعد مراكمة وعي جماعي ساهمت في صقله رواية “كوخ العم توم” التي أحاطت بكل شرائح المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت.
سلاسة لغة هذا العمل وبعده العاطفي الصادق ساهم في انتشاره واحتضان ولايات الشمال له حتى وصل صداه إلى البيت الأبيض، وفاز الشعب برهان إلغاء الرق محققًا ولو جزئيًا ما حلمت به “إيفا” وما صلّى من أجله “العم توم”.
اقرأ أيضًا:
- من العبودية إلى الرأسمالية الحديثة: رحلة تطور النظام الاقتصادي الأكثر شيوعًا في العالم
تقول العجوز المحتضرة في إحدى صفحات هذا الكتاب:
«لست أريد الذهاب إلى الجنة. أليست الجنة هي المكان الذي سيذهب إليه أصحاب البشرة البيضاء؟ إنني لأفضل أن أذهب إلى الجحيم على أن أجتمع بسيدي وسيدتي في الجنة!»
فكيف لكتاب تردد فيه مثل هذه الكلمات ألا يشعل نيران الحرب.
لك أيضًا:
- سلطة الكتب: تطبيق عملي مع كونديرا والعلاج النفسي الوجودي!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.