نوبل في الكيمياء 2022: ربحها ثلاثة علماء دمجوا الجزيئات مثل قطع الليغو
5 د
أتذكر عندما كنت أدرس الكيمياء في صفوف المدرسة أو الجامعة، كان يذكر لنا الأستاذ دائمًا أنّ هناك منتجات ثانوية تظهر في نهاية التفاعل مع المادة المطلوبة، وتلك المنتجات كلما زادت، قلّت المادة المراد إنتاجها، لكن هذا لا يحدث مع الليغو (لعبة المكعبات)؛ فمثلًا إذا أردت بناء شكلٍ ما باستخدام عدد معين من قطع الليغو حسب الخطوات في الدليل، ستُلاحظ في النهاية أنك استخدمت كل القطع، وحصلت على الشكل المطلوب بدون خسارة أي قطعة. وهنا مربط الفرس أو بالأحرى هذه ببساطة شديدة فكرة جائزة نوبل للكيمياء لعام 2022.
ماذا لدينا على مائدة نوبل للكيمياء 2022؟
تقاسم جائزة نوبل للكيمياء في 2022 ثلاثة أشخاص، وهم: باري شاربليس ومورتن ميلدال وكارولين بيرتوزي؛ إذ حصل عليها شاربليس وميلدال؛ لأنهما وظفا الكيمياء النقرية (Click Chemistry) جيدًا وقاداها نحو التطور، بينما حصلت بيرتوزي على النصف الآخر من الجائزة لتطويرها تفاعلات الكيمياء الحيوية المتعامدة (Bioorthogonal Reactions) التي أسهمت في تطور علاجات السرطان والأدوية.
والجدير بالذكر أنّ باري شاربليس قد حصل على نوبل للكيمياء في عام 2001، وعاد ليحصل عليها مرة أخرى عام 2022 مع اثنين من أمهر العلماء؛ فما القصة؟
في محاولة لمحاكاة الطبيعة
عند النظر في كثير من ابتكارات الإنسان، نجدها محاكية للطبيعة. وعلى المستوى الجزيئي، سعى البشر كثيرًا لتصنيع جزيئات تشبه الجزيئات الحيوية الطبيعية الموجودة داخل الكائنات الدقيقة والحيوانات والنباتات؛ لتطوير الأدوية. وكان لهم ما أرادوا، لكن كانت المشكلة دائمًا في الجزيئات المعقدة التي تحتاج إلى خطوات كثيرة ليتم التفاعل، وفي كل خطوة، تظهر منتجات ثانوية غير مرغوب فيها يجب إزالتها قبل الانتقال للخطوة التالية، وهذا كله يؤثر على كمية المادة الناتجة. كانت هذه هي معضلة الكيميائيين على مر السنين.
باري شاربلس... الأب المؤسس للكيمياء النقرية
كان العالم الأمريكي "باري شاربلس" هو أول من بدأ فكرة الكيمياء النقرية، وهي تعني دمج الجزيئات المتفاعلة مع بعضها بسرعة وكفاءة، للحصول على المنتج دون خسائر، تشبه الفكرة تمامًا دمج قطعتي ليغو والحصول على قطعة ثالثة بشكلٍ جديد.
من المعروف أنّ الجزيئات الحيوية تحتوي على هياكل من ذرات الكربون المترابطة، وغرض الكيميائي هو محاكاة هذه الجزيئات لإنتاج نسخ كثيرة، لمنفعة الناس، لكن يصعب محاكاة كثير من هذه الهياكل؛ لقوة الروابط الكيميائية بين ذرات الكربون، وإذا أردنا تكوين جزيئات حيوية معقدة؛ فهذا يعني أننا بحاجة إلى محفزات لتربط هذه الذرات ببعضها فيتكوّن الهيكل الجزيئي المطلوب، أليس كذلك؟
لكن هنا مشكلة كبيرة، وهي أنّ أغلب المحفزات تتسبب في زيادة فرصة ظهور المنتجات الثانوية وتقليل المنتج النهائي المرغوب فيه. ولأنّ البساطة سر من أسرار العبقرية، فكّر شاربلس في ربط الجزيئات مع بعضها عبر ذرات من النيتروجين أو الأكسجين. تمامًا كأنك أحضرت كرتين من قماش وحكتهما معًا بخيط.
طرح شاربلس أفكاره في عام 2001، واقترح أن يحدث التفاعل في وجود الأكسجين والماء؛ لأنه يرى أنهما صديقان للبيئة، ومن هنا ظهر مصطلح الكيمياء النقرية.
تلاقي خواطر كيميائيين
على الصعيد الآخر، كان "مورتن ميلدال" الدنماركي قد توّصل إلى نفس الطريقة دون علمٍ منه أنّ شاربلس قد فعلها قبله. كانت قصة ميلدال في اكتشاف هذا التفاعل هي أقرب من الصدفة؛ فبينما كان يُجري تفاعل الألكاين مع هاليد الأسيل، في وجود عامل حفاز (النحاس)، لاحظ أنّ الألكاين تفاعل مع الطرف الخاطئ من هاليد الأسيل، الذي كان "أزيد".
وفي النهاية اتحد الألكاين مع الأزيد في هيكل على شكل حلقة، وكوّن ما يُسمى بـ"تريازول" (Triazole)، وهو مركب كيميائي مستقر مطلوب بشدة ويتوفر في بعض أنواع الأدوية والأصباغ والمواد الكيميائية الزراعية وغيرهم.
أدرك ميلدال أنّ التفاعل الذي حدث كان استثنائيًا وأعلن عنه في ندوة في سان دييغو عام 2001، وفي نفس العام، نشر شاربلس ورقة بحثية حول تفاعل النحاس المحفّز بين الأزيد والألكاين، ووضح أنّ التفاعل يعمل جيدًا في الماء، وأكّد على إمكاناته الهائلة.
هذا يعني أنّ الكيميائيين يمكنهم ربط جزئين مختلفين عن طريق إدخال أزيد في جزيء وألكاين في الجزيء الآخر، ثم ربط الجزيئين معًا باستخدام أيونات النحاس المحفّزة.
يسمّى التفاعل الذي توّصل إليه شاربلس وميلدال "الإضافة الحلقية من النوع أزيد-ألكاين المحفزة بالنحاس" (the copper-catalyzed azide-alkyne cycloaddition)، ولهذا التفاعل الكثير من التطبيقات، خاصة فيما يتعلق بالأدوية.
داخل أجسام الكائنات الحية
وأخيرًا تظهر كارولين بيرتوزي في المشهد؛ لتوّظف تفاعل شاربلس وميلدال في الكيمياء الحيوية، وهذا يعني أنها تريد استخدامه داخل خلايا الكائنات الحية، لكن لحظة! النحاس مادة سامة؛ فلا يصح استخدامه كعامل حفاز داخل الخلايا الحية، وكان هذا تحدي كارولين. تعال لنرى قصتها.
كانت كارولين المتخصصة في الكيمياء الحيوية في جامعة ستانفورد تريد رسم خرائط للجزيئات والبروتينات لتفهم آليات عمل الخلية، في محاولة لمحاكاتها، وكان فضولها يدفعها نحو مجموعات الجليكان، وهي كربوهيدرات معقدة، تتكون من أنواع مختلفة من السكر، وتلعب دورًا فعّالًا في العمليات الحيوية، خاصة في حالة إصابة الفيروسات لخلايا الجسم.
راحت كارولين تبحث في أعمال السابقين لعلها تجد ما يساعدها على رسم خريطة للجليكان، وهذا يعني أنها بحاجة لتحديد أماكنها المخفية في الخلية، وذلك عبر الخطوات التالية:
- إدخال حمض السياليك إلى الخلية، وهو أحد أنواع السكريات المكونة للجليكان، عدلته كارولين وأضافت إليه الأزيد.
- يتداخل حمض السياليك المُعدّل في تكوين الجليكان الواقع عند سطح الخلية.
- بعد ذلك، تُضيف كارولين الألكاين المُحمل بمادة ضوء مشعة "فلوروسنت" (Fluorescent) بلون مميز.
- تظهر جزيئات الجليكان في الخلية؛ بسبب إضائتها بالفلوروسنت.
ولكي تتم هذه الخطوات بنجاح، يجب أن يكون التفاعل بين جزيء الفلوروسنت والأزيد كيميائي حيوي متعامد.
وفي عام 2004، نشرت ورقة بحثية عن تفاعل النقر الخالي من النحاس واسمه "الإضافة الحلقية من النوع أزيد-ألكاين" (cycloaddition alkyne-azide). ثم أوضحت أنه يمكن استخدامه لتتبع الجليكانات ورسم خرائط لها.
في محاولة لمحاربة السرطان
راحت كارولين تبحث عن طريقة يمكنها عبرها استخدام هذا التفاعل في مجال السرطان، خاصة وأنّ خلايا السرطان تحتوي فوق أسطحها على الجليكان، لكن وجوده هناك يُثبط جهاز المناعة؛ فيحمي خلايا السرطان. وهذا يعني أنّ وجود الجليكان هناك خطر، لذلك فكرت في التخلص منه عبر إرسال إنزيم يكسر ذلك الجليكان، وهذا الدواء قيد التجربة الآن.
استطاع ثلاثي نوبل للكيمياء توظيف البساطة والإبداع في تقديم تفاعلات أنيقة وجيدة ومفيدة للبشر، تساهم في إنتاج الأدوية وعلاج أشرس الأمراض، وهذا كان غرض "ألفريد نوبل" من طرح جائزة نوبل في البداية كما قال في وصيته: "لأولئك الذين أعطوا البشرية أكبر فائدة".
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.