تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

رقصة على قرص العسل: كيف طوّر النحل لغة التواصل؟

آلاء عمارة
آلاء عمارة

7 د

عُدت إلى مقعدي بخيبة أمل بعدما أخبرني معلمي أنّ عليّ الانضمام إلى فريق لإنجاز المهام التي وزعها علينا، كنت طفلة تحب الجلوس وحدها، قليلة الحديث، لا تريد التعاون مع أحد، تستطيع إنجاز مهامها وحدها، وعندما لاحظ شرودي وحزني، ناداني وقال لي: "آلاء، ما وجه التشابه بيننا وبين نحل العسل؟". فكرت قليلًا، ثم أخبرته، كلانا نحيا في حياة اجتماعية. أثنى عليّ ثم شرح لي كيف أنّ التعاون والانضمام إلى فريق يساعد على تعزيز الروابط الاجتماعية. 

كانت بوادر حبي للعلوم ظاهرة في ذلك الحين، وبدأت أتساءل. كيف يتواصل النحل مع أنه لا يتحدث؟ لماذا يقولون دائمًا إنه متعاون، بل وتُضرب به الأمثال، ويُدرّس سلوكه هذا في المدارس والجامعات؟ أمر غريب، أليس كذلك؟ حسنًا، وصلتني إجابات تساؤلاتي منذ عدة سنوات، واليوم أشاركها. وكما هي العادة، لنعد للوراء قليلًا، ونفتش في الماضي، ثم ننتقل بإيقاع زمني مناسب إلى ما وصل إليه العلم اليوم.


رقصة على قرص العسل

كانت الحرب العالمية الثانية تهدد الأمن الغذائي في معظم البلاد؛ فكانت الحكومات تشجع العلماء على إجراء أبحاث تعزز إمدادات الغذاء لشعوبها. في ذلك الوقت، كان هناك عالم نمساوي يُدعى «كارل فون فريش»؛ يمارس شغفه ويُجري أبحاثه حول حركة غريبة يقوم بها النحل؛ فما كان من العالِم الشغوف إلا أن تتبعها ولاحظ دلالات حركتها التي تؤديها باحترافية، ثم يَخرج عددٌ كبير نسبيًا من النحل؛ قاصدين مكانًا معينًا، فيه أزهار ورحيق وكل ما تشتهي أنفس النحل، ثم يعودون إلى المستعمرة؛ محملين بالكنز الثمين، والذي يتمثل في الغذاء. 

لاحظ الباحثون في وقت مبكر حركات النحل الغريبة على قرص العسل، لكن لم تكن لديهم أي فكرة حول سببها، ولم يدركوا أنها شكل من أشكال التواصل، بخلاف فريش الذي لم يشك في أنّ لهذه الحركات دور ما في تواصل النحل؛ فاستكمل أبحاثه حتى خرج بنتائج أهلته للحصول على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجي لعام 1973. واشتُهرت حركات النحل هذه بـ«رقصة النحل». ونُشر كتاب لـ"تانيا مونز" يسرد نتائج أبحاث فريش بالتفاصيل، وهو كتاب «النحل الراقص» (The Dancing Bees)

يُعد نحل العسل (Apis sp) جنس النحل الوحيد المعروف باستخدام لغة الرقص في التواصل، ويؤدي النحل هذه الاهتزازات التي نُطلق عليها مجازًا رقصات، عندما يعثر على مصادر للطعام عالية الجودة. وهذه مهمته الأساسية، ففي بعض المواسم لا تكون هناك أزهار يستطيع النحل جمع الرحيق منها وتحويله إلى عسل في الخلية، لذلك يجب على المستعمرات الحفاظ على مخزون كاف من الطعام للبقاء على قيد الحياة حتى تعود أزهار الربيع.

لذلك، يجب على النحل صنع كميات كبيرة من الطعام وتخزينها قبل حلول فصل الشتاء، وهذا يعني أنّ النحل لديه أعمال كثيرة، وعليه زيارة ملايين الأزهار لجمع الرحيق وحبوب اللقاح. على الرغم من أنّ الخلية لديها آلاف الأفراد للقيام بهذا العمل الذي يعزز الأمن الغذائي للمستعمرة، إلا أنّ النحل يحتاج بشكل أساسي لطريقة فعّالة من أجل التواصل ولتوفير الوقت قبل الشتاء؛ فالوقت يعني المال، أقصد الوقت يعني العسل بالنسبة للنحل.

ويُعرِّف الدكتور «يحيى النجار»، أستاذ مساعد في كلية العلوم بجامعة طنطا،  رقصة النحل على أنها سلوك اجتماعي تقوم به مجموعة من النحل الذي يخرج للبحث عن الطعام، ثم تعود المجموعة للمستعمرة لمشاركة المعلومات المفيدة، والتي تتضمن موقع العسل وجودته واتجاه الطعام. ويُضيف النجار لـ"أراجيك" في تصريحاته عبر الواتس آب: "استطاع العلماء تفسير عدد من المعلومات المفيدة من خلال هذه الرقصة". 



إيقاع الرقصة 

"كما نعلم، لكل نحلة وظيفة ما في الخلية، ويبدأ النحل في العمل منذ عمر مبكر جدًا؛ فمثلًا، النحلة يكون لها وظيفة ما بعد عمر يوم، ووظيفة أخرى بعد 8 أيام، لكن بعد 16 يومًا على ميلادها، تكون جاهزة لوظيفة مهمة جدًا، ألا وهي البحث عن الغذاء. ويُسمى النحل صاحب هذه الوظيفة بـ«النحل الكشافة»". يشرح النجار. 

ويتابع النجار في حديثه لـ"أراجيك": "في البداية، تذهب مجموعة بسيطة من النحل الكشافة؛ للبحث عن مصادر غنية بالغذاء، تلك المصادر تتمثل في الرحيق وحبوب اللقاح، وفي حالة إيجاد مصدر مناسب، تعود النحلة للخلية من جديد، وتقوم بالرقصة الاهتزازية أو "Waggle Dance". 

من جانبه يُوضح الدكتور يحيى، أنّ هذه الرقصة توّضح 3 معلومات مهمة، وهي: 

  • جودة الغذاء، ويزداد حماس النحلة في أثناء الرقص إذا كانت جودة الطعام عالية. 
  • المسافة بين المستعمرة ومصدر الغذاء، ونعرفها بعدد مرات تكرار النحلة للرقصة. 
  • اتجاه موقع الغذاء، وهو يتمثل في حركتها الاهتزازية في اتجاه متعامد على أشعة الشمس. 


صورة توضح رقصة النحل

كيف تطورت لغة الرقص؟ 

تشير بعض الأدلة إلى أنّ النحل تطور من الدبابير بين 140إلى 110 ملايين عام مضى، وأقدم أحفورة عُثر عليها للنحل كانت في العصر الطباشيري، ويتراوح عمرها بين 65 إلى 70 مليون سنة، ومن خلال دراستها، اتضح أنّ الحياة الاجتماعية بين النحل كانت نشطة في ذلك الوقت، وهذا النشاط مهم لتطوير طريقة فعّالة للتواصل بين النحل، وهذه الطريقة هي الرقص. لكن هل كان النحل في حاجة لتطوير الرقصة وقتها؟ 

الإجابة باختصار، هي نعم؛ فهناك اقتراح يشير إلى أنه بين 50 إلى 40 مليون سنة مضت، بدأت درجات الحرارة العالمية في الانخفاض، ما أثر بشكل ما على توزيع الموارد؛ فزادت الحاجة إلى تطوير وسائل للتواصل من أجل البحث عن الطعام. 

ولكن السؤال الأهم: هل تطورت الرقصة فعلًا بسبب الحاجة للطعام؟ حسنًا، لدينا 3 اقتراحات في هذا الصدد: 

  • يقترح بعض الباحثين أنّ النحل طور الرقصة في الأساس من أجل اختيار العش الصالح للعيش، بعدما يخرج فريق الكشافة لاستكشاف المكان، يبدؤون في تقييم الأماكن الصالحة للعيش فيها، ثم يخبرون بها باقي المستعمرة عن طريق الرقصات، ثم انتقلت هذه الرقصة إلى الطعام لاحقًا.
  • هناك احتمال آخر يقول إنّ أنواع نحل العسل المبكرة، كانت في الأساس تعيش في أعشاش مفتوحة، وهذا يعني أنها لا تجد صعوبة في العثور على مواقع الأعشاش؛ وإنما طورت هذه الرقصة من أجل البحث عن الطعام؛ إذ كانت المنافسة على الطعام وقتها شرسة، وتساعد الرقصة المستعمرة في تحديد مواقع الطعام وكيفية استغلالها؛ حتى وإن كانت على مسافة بعيدة.
  • أما الاحتمال الثالث؛ فهو حيادي، ويشير إلى أنّ الرقصة كانت قد تطورت في السياقين؛ فموقع العش عالي الجودة، وكذلك الطعام عالي الجودة، يمثلان مكافأتين مهمتين في دماغ النحل، وتتم معالجتهما بنفس الطريقة، ما جعل احتمال تطور الرقصة للأمرين واردًا.

مع ذلك، يصعب تحديد التاريخ الدقيق لتطوير رقصة النحل. هناك احتمالات تشير إلى أنّ الاتصال بالرقص بين النحل بدأ بين 70 إلى 80 مليون سنة مضت، ولكن هذا غير مرجح، واحتمال آخر يقول إنّ اللغة تطورت في أوائل العصر الميوسيني قبل حوالي 20 مليون سنة. وبما أنّ جميع الأنواع الموجودة الآن تستخدم لغة الرقص؛ فلا بد وأنّ سلفهم المشترك قد استخدم لغة الرقص من قبل. 


أخطاء الفوضى المكلفة

محظوظ ذلك النحّال الذي يشاهد النحل يمارس رقصته داخل المستعمرة؛ فهذه فرصة لا تُتاح للجميع، وهذا يضع أمام النحل تحديًا كبيرًا، إذ عليه الحفاظ على إيقاع الرقصة دون أي خطأ عند الإشارة إلى المسافة أو الاتجاه، ويُطلق على هذه الأخطاء «أخطاء الفوضى»؛ والتي قد تتسبب في فقدان أفراد المستعمرة لطريق الغذاء الصحيح، ما يكلفهم وقتًا وجهدًا، وهذا بالطبع ليس أمرًا محمودًا، وله عواقب وخيمة. لذلك، يجب على النحلة أن تتقن الرقصة حتى الاحتراف. 


 تعلّم لغة الرقص 

كشفت دراسة منشورة في 9 مارس/آذار 2023، في دورية «ساينس» (Science) عن أنّ هذه الرقصة ليست فطرية تمامًا؛ أي أنّ النحل يُخلق ببعض المعرفة حولها، ولكنه لا يستطيع تطويرها إلا عندما يلاحظ النحل الأكبر عمرًا يمارسها. 

استخدم الباحثون مجموعتين من النحل: 

  • المجموعة الضابطة: وهي صغار نحل العسل التي وُضعت في مستعمرة، تستطيع فيها ملاحظة النحل الأكبر سنًا في أثناء تأدية الرقصة. 
  • المجموعة قيد التجربة: وهي مجموعة النحل التي تم عزلها في مكان بعيد عن المستعمرات؛ لم تسنح لها الفرصة بمراقبة رقصات النحل البالغ. 
ذو صلة

وكانت النتيجة أنّ النحل المعزول، وقع في أخطاء خاصة بالاتجاه والمسافة في أثناء تأديته للرقصة، على عكس المجموعة الضابطة، التي أدت الرقصة باحترافية. 

أشاد الدكتور يحيى النجار بالدراسة، وعلق لـ"أراجيك": "كانت هناك فكرة بأنّ النحل يمارس الرقصة باحتراف عند عمر معين، لكن اتضح أنّ هذه الفكرة خاطئة". ووصف الرقصة على أنها سلوك خام، تحتاج النحلة لاحترافها، وذلك عندما تراقب النحل البالغ يمارسها. وأكد النجار على ضرورة الرقصة لحياة النحل؛ فدونها سيصعب عليه الحصول على طعام. 

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة