البؤساء .. ماضي وحاضر صراعات أزلية خلدت صاحبها
5 د
رواية “البؤساء-Les misérables” مِن أعظم وأجمل ما كُتِبَ في الأدب على الإطلاق؛ هي من إبداع العبقري الفرنسي “فيكتور هوغو – Victor Hugo” أحد أهم أعمدة الأدب الفرنسي والعالمي في القرن التاسع عشر. تُرجِمت الرواية إلى أكثر من عشرين لغة، وعُرضت قصتها في دور السينما والمسرح منذ بداية القرن العشرين.. فما السِّر وراء الاستحسان العالمي لها؟
لمحة عن رواية البؤساء
نُشِرت الرواية للمرة الأولى سنة 1862، وكان آنذاك “Victor Hugo” في المنفى بسبب مواقفه السياسية. لاقت الرواية إقبالًا جماهيريًا مجنونًا، ووقع في حبّها الكثير من النقاد.
هذه الرواية ملحمةٌ بشريةٌ تمتد عبر حوالي 1500 صفحة، أبرزُ أبطالها هم:
- “جان فالجان- Jean Valjean”: رجل دخل السجن بسبب سرقة رغيف خبز، ومكث خلف القضبان 19 سنة: 5 سنوات عقابًا على الجريمة، و 14 سنة لأنّه حاول الفرار عدّة مرات دون نجاح.
- “فانتين- Fantine”: فتاة جميلة مفعمة بالحياة، تحمِل بجنين لرجل يتركها دون زواج ويختفي من حياتها نهائيًا. تمضي هذه البائسة ما تبقّى من عمرها تحاول تأمين العيش لابنتها.
- “كوزيت- Cosette”: ابنة فانتين؛ تنشأ كخادمة في نُزل بعيدًا عن والدتها.
- “ماريوس- Marius”: شاب متعلّم، من الذين يرفضون الحكم الملكي ويدافعون عن مبادئ الثورة الفرنسية: الإخاء، الحرية والمساواة.
- “عائلة تينارديي-Les Thénardier”: العائلة التي تمتلك النزل الذي تنشأ فيه Cosette. هذه العائلة تجسيد بشري لكل صفات الحقارة في الإنسان.
- “جافير-Javert”: ضابط شرطة، لا يؤمن إلا بالنص القانوني، وفقط.
تتقاطع أقدار هؤلاء البؤساء بشكلٍ عجيب، ويعيش كلٌّ منهم مأساته الخاصة في تشابكٍ خرافي مع الواقع السياسي والاجتماعي والفكري للثلث الأول للقرن التاسع عشر في فرنسا.
باختصار، رواية البؤساء تعالج الصراع بين الخير والشر، وتدعو إلى الحرية والعدالة والديموقراطية والمساواة والتعليم والصفح والحب والسلام.
قيمة الرواية
في كتابٍ له عن “Victor Hugo”، يحكي عضو الأكاديمية الفرنسية “ألان دوكو- Alain Decaux” عن تجربته مع رواية البؤساء:
قرأتُ الروايةَ دون انقطاع حتّى وصلتُ للنهاية بموت “Valjean” الذي كلّفني الكثير من الدموع.. خرجتُ من هذه القراءة مُعدَمًا، تائهًا، مكسورًا. لم أكن أعلم أنّني التقيتُ للتو بأعظم رواية باللغة الفرنسية. لكنّني كنتُ أشعر أنني اجتزتُ شيئًا عظيمًا.
أعتقد أنّ أكثر ما يجعل هذه الرواية فريدةً جدًا في عالم الأدب هو:
- نجاح الكاتب في جعل هذه الرواية مُنبّهًا أدبيًا هدفه إيقاظ الوعي الفردي والجماعي تجاه أهم القضايا التي تحدّد مصير الفرد والأمّة وتمسّ تطوّرها، كالتعليم والحرية.
- تركيزُ الكاتب “Victor Hugo” على الجانب الإنساني، وقدرتُه المذهلة على رصد تطوّر الكائن البشري أخلاقيًا، ونُبوغُه الساطع في كشف أعماق وخبايا نفوس الشخصيات الروائية باختلاف جنسها وعمرها وخلفيّتها، وقُدرتُه على تجسيد ماهية الأخلاق وأهميتها من خلال الأحداث.
- عرض الكاتب للمشاكل الاجتماعية لم يكن عشوائيًا، سطحيًا أو طرحًا خاليًا من الحلول، بالعكس: قام “Victor Hugo” بحياكة أشرس المشاكل الاجتماعية بسلاسة كبيرة في جسم الرواية، وأجاد التعاطي مع كلّ حيثياتها وتفاصيلها بدءًا بالأسباب وانتهاءً بالنتائج، وجَعَل البدائل والحلول جزءًا من الحبكة الروائية، قابلة للاستنتاج دون إطنابٍ أو تعريضٍ مملّ زائد.
- قيام الكاتب بتصوير الحياة الباريسية (في الثلث الأول للقرن التاسع عشر) تصويرًا موسوعيًا شاملًا، فقد تحدّث عن الأوضاع الاجتماعية، السياسية، الأخلاقية والفكرية في تلك الفترة، ووصف هندسة المدينة وعمرانها، وتناول هيكل العدالة وفلسفة “الجريمة والعقاب” آنذاك، كما تعرّض إلى الثورة الفرنسية وحروب نابوليون، ولم يُغفل الحديث عن الدين والكنيسة والله.. لهذا فقارئ هذه الرواية يشعر أنّه يسافر إلى باريس القرن التاسع عشر ويتنفّس روحها ويقرأ أفكارها ويعرفها كأنّه واحدٌ من أهلها.
قد يكون الطريقُ الأقصرُ لتكوين فكرة عن روحِ رواية البؤساء وفلسفتِها عبر التعرف على كاتبها؛ تقول “سيلفي لدا- Sylvain Ledda” و”جوديث وولف- Judith Wulf ” في مقدّمة كتابٍ لهما بعنوان “Victor Hugo, l’irréductible- فيكتور هوغو، اللامُختزَل”:
هوغو، ثوري؟
يبدو أنّ جواب هذا السؤال يفرض نفسه على الجميع بأنّه حقيقة. في قرن الثورات، كان هوغو شاعرًا عبقريًا ورجل صراعات: من أجل الآخرين، من أجل نفسه، من أجل حرية الفنّان. خاض معارك أدبية، سياسية، اجتماعية. بعضُ هذه الكفاحات لازمته، كحكم الإعدام الذي كان دائمًا ما يُندِّد به ويهاجمه، شِعرًا ونثرًا. اليوم، هوغو يُجسِّد الالتزامَ لخدمة التطور.[..]
لقد بقي هوغو مثالًا في الشجاعة السياسية والبسالة الأدبية.
تمامًا مثل كاتبها، رواية البؤساء ثورية بامتياز؛ ثورية ضد الظلم، ضد الجهل، ضد الاستغلال الجنسي للمرأة، ضد الفوراق الاجتماعية غير المبرَّرة، ضد إدانة المجتمع للمجرم بعد خروجه من السجن وإبدائه التوبة، ضد قمع الحريات الفردية والجماعية، ضد كلّ ما يوقف عجلة التطوّر الإنساني نحو الخير والازدهار والتآخي والحرية..
يقول “Victor Hugo” في روايته:
الكتاب الموجود الآن تحت عيني القارئ، هو، من طرف لآخر، في مُجمَله وتفاصيله، مهما تكن التعاقبات، الاستثناءات أو مواضع الفشل، سيرُ السيئ نحو الجيّد، الظلم نحو العدل، الخطأ نحو الحقيقة، الليل نحو النهار، من الشهية إلى الوعي، من الاضمحلال إلى الحياة، من الوحشية إلى الواجب، من الجحيم إلى السماء، من العدم إلى الله. نقطة البدء: المادة، نقطة الوصول: الروح.
الشر في البداية، الملاك في النهاية.
البؤساء في القرن الواحد والعشرين
بعد قرنٍ ونصف من ظهورها الأول في الساحة الأدبية، ما زالت رواية البؤساء تعتلي الصرح الأدبي العالمي بمميّزاتها الروائية الفذّة، وما زالت رسالتُها صالحة للقراءة والتأمل، فهي واحدة من الروايات القليلة التي تُعاد للبعث دون توقّف، لا تنحصر آفاقُها في مجتمع واحد أو ثقافة معيّنة، بل على عكس ذلك تمامًا، كلّ واحد من القرّاء قادر على رؤية نفسه في زاويةٍ ما من زوايا الهيكل الروائي للبؤساء.
ربّما لهذا السبب، فإنّ هذه القصة لا تخبو على الإطلاق، وما زالت تثير اهتمام القائمين على برامج الكرتون والتلفزيون والقصص القصيرة والمسرح والسينما، والشاهدُ على ذلك هو النجاح الباهر الذي حققه فيلم “Les Misérables” من إخراج “Tom Hooper” وبطولة “Hugh Jackman” ،”Russell Crowe” ،”Anne Hathaway” وغيرهم من المشاهير.. وقد حاز هذا الفيلم الموسيقي على تقييم جيّد على موقع IMDb، كما حصد الكثير من الجوائز العالمية القيّمة، وحشد جماهير غفيرة في صالات السينما وأمام شاشات التلفاز.
وإن كنت -عزيزي القارئ- تتساءل ما إذا كانت الأفلام والمسرحيات تغني عن الكتاب، فالجواب هو: قطعًا لا! هذا الكتاب تحديدًا لا يختزل في ساعتين على شاشة، أبدًا. هذا الكتاب عمل فنّي متكامل، يجب أن يُحتسى على مهل.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.