حليب أسود.. ووحش اكتئاب ما بعد الولادة المسكوت عنه
5 د
عندما تنجب الأم يصيح العالم بها مهللًا متوقعًا منها أن تقفز فرحًا بطفلها الجديد، أن تأخذ مباشرة بعد الولادة صورة الأم المثالية في خيالنا، خدود متوردة، مع شحوب بسيط، وإنهاك محبب، ثم تبدأ مباشرة في أداء مهام وظيفتها الجديدة كأم بمنتهى الاقتدار، أليست الأمومة غريزة داخل كل أنثى؟
في الحقيقة هذه الصورة خيالية تمامًا، وكل أم تعرف ذلك حتى لو لم ترد الاعتراف بهذا، فالمرأة تخرج من تجربة الحمل والولادة منهكة مستنزفة قلبًا وقالبًا، ومطالب منها وهي في تلك الحالة أن تحمل أكبر مسؤولية من الممكن أن تقع على عاتق إنسان وهي العناية بكائن صغير هش سهل الكسر، وتحويله إلى شخص كامل معافى الجسد والنفس.
وعلى الرغم من أن 80% من السيدات يصبن بما يسمى Baby Blue أي الاكتئاب الطفيف لما بعد الولادة والذي قد يمتد لأسبوعين بحد أقصى، فإن الاعتراف بمرور المرأة بهذا الشعور مشين للغاية خصيصًا في مجتمعاتنا العربية، ونجد الكثير من الاتهامات تقابلها أهمها أنها لا تقدر نعمة الأمومة، وأن الكثيرات يحلمن بمثل هذا الشرف، مع تصدير الصورة الخيالية سابقة الذِكر للأم كاملة القدرات، لنجد في الكثير من الحالات أن الاكتئاب البسيط يتحول إلى وحش اكتئاب ما بعد الولادة.
وقامت إليف شافاق في كتابها “حليب أسود” بكسر كل هذه التابوهات، تكلمت عن المسكوت عنه، عن شكوكها التي سبقت مشروع الحمل، عن الأفكار التي تنازعتها حول قدرتها على الأمومة، والأهم عن اكتئابها فيما بعد الولادة وكيف تعاملت معه، لتقدم في صفحات عديدة دليلاً لكل امرأة تريد أن تصبح أماً أو لا، تعرفها على العالم الذي ستقبل عليه، وتضع أمامها الخيارات كلها، وتترك لها انتقاء الأفضل لها.
شكوك الأنوثة والطموح..
على المرأة الطموح الكثير من الأعباء والاختيارات الصعبة، فمن اتجاه تريد أن تثبت نفسها في المجال التي تعمل به، تصل للعظمة، تحقق الإنجازات، ومن جهة أخرى تميل بها غريزتها إلى الأمومة على الرغم من معرفتها أن الحصول على كل شيء مستحيل تمامًا، وستضطر للتضحية بجانب على حساب الآخر.
في بداية الكتاب تعرفنا إليف على السيدات الصغيرات اللواتي يعشن في داخلها – وبداخل كل امرأة – لكل سيدة صغيرة شخصية مستقلة، العملية والطموحة والصوفية والمثقفة الساخرة، لسن هؤلاء كل الشخصيات التي تعيش بداخلها، لكنهن الأقوى في تلك الفترة.
وعند لحظة معينة تشعر الكاتبة أنها أمام الخيار الصعب في حياة كل أنثى، هل تصلح لأن تكون أم؟ أم ترضى بطموحها والعظمة التي تهدف إليها كروائية لا غبار عليها؟ تأخذ القرار برعونة، وتتهرب من الجانب الأنثوي بداخلها، وتغلق عليه الأبواب وترمي المفاتيح، وتظن بذلك أنها ارتاحت من الحيرة وكثرة التفكير.
رحلة مع الجانب الأنثوي لأشهر الكاتبات..
لم ترد إليف أن تجعل من الكتاب محض تجربة شخصية لها، بل أثرته بقصص وحكايات أهم الكاتبات عند خوضهن نفس الصراع الذي تخوضه، استعرضت في كل فصل حياة عدة كاتبات، وإجابتهن عن نفس الأسئلة التي تثيرها.
وكما لو كانت تجري استطلاعًا للرأي، استحضرت أرواح تلك السيدات الموهوبات، سألتهن أسئلة حساسة، عن خيارتهن، لماذا اخترن الأمومة أو رفضوها، تعرفت على التجارب المختلفة لكلا الجانبين، واستنتجت في النهاية أن لكل امرأة أسطورة شخصية، لا يمكن تكرارها، أو التعلم منها، فالخيارات المتاحة على الرغم من محدوديتها فإنها تأخذنا إلى طرق مختلفة، تبعًا لطرق تصرفنا في كل خطوة نخطوها.
الأمومة وفقدان الهوية..
مع أول الخطوات في اتجاه الأمومة تبدأ العديد من التغيرات الشخصية والهرمونية تحدث للمرأة، أظهرتها إليف على شكل الحكم المستبد للجانب الأمومي بداخلها، الذي أخذ منذ بداية الحمل في قمع كل جوانب شخصيتها الأخرى، لينفرد بحكم نفسها، وتبدأ في فقدان هويتها بالتدريج، لتتشكل في صورة الأم المرغوبة والخيالية، سواء منها أو من المجتمع الذي يحيطها.
حتى تصل إلى لحظة الصفر أو الولادة، وتبدأ في تحمل أعبائها الجديدة، وتكتشف أنها كما أخرجت من باطنها طفلتها، هرب معها في ذات اللحظة الإلهام، وفقدت قدرتها على نسج الحكايات، لتجابه بموجة عالية من اكتئاب ما بعد الولادة.
تعرفت إليف على اكتئاب ما بعد الولادة عن قرب، حاولت الهرب منه وتجاهل وجوده ثم استسلمت وبعدها بدأت في مرحلة للتصالح معه، رحلة طويلة قد أكون لخصتها في بضعة كلمات، لكن العديد من الأمهات اللواتي تعرضن لهذه المحنة الشاقة يعلمن أن الخروج من اكتئاب ما بعد الولادة بسلام هو من أصعب التجارب التي قد تمر بها امرأة.
أول وأصعب خطوات التعامل مع اكتئاب ما بعد الولادة هو الاعتراف به، وأن ما تشعر به الأم من انعدام الثقة في نفسها وكفاءتها وقدرتها على العناية بطفلها هو وليد اضطراب نفسي وهرمونات صاخبة تفرض عليها مشاعر لا تخصها، وعلى الرغم من صعوبة هذه الخطوة إلا أن بعض الأمهات قد يقمن بها.
ولكن الخطوة التالية قد تكون شبه مستحيلة في مجتمعنا العربي وهي طلب المساعدة، سواء من المقربين أو من المتخصصين من أطباء نفسيين، فأن تعبر المرأة عن متاعبها من الأمومة، عن شعورها بالألم والاكتئاب الدائمين، عن عدم سعادتها بهذه الهبة وصمة عار على جبينها، وعلى الأغلب لن تقابل بالمساعدة التي تكون في أمس الحاجة لها، بل بالاستنكار الذي لن يزيد سوى ألمها.
لذلك أعتبر “حليب أسود” من أهم الكتب التي قرأتها في الفترة الأخيرة، حيث اعترفت خلاله إليف شافاق بالكثير من الأفكار التي تدور في بال العديد من السيدات، ويخفن التعبير عنها، لخصت الكثير من الأسئلة التي تدور في بال كل امرأة وليس كاتبة فقط، وقدمت تجارب عديدة متنوعة لسيدات أخريات، ليصبح الكتاب دليلًا لكل امرأة تشعر بالخوف على هويتها الشخصية، كل امرأة تشعر بما لا تستطيع التعبير عنه، ويقدم رسالة لها بأن تتخلى عن شعورها بالعار، وتتأكد أن ما تمر به مرت به الكثير من السيدات على مر التاريخ، ومنهن كثيرات استطعن تجاوزه والصمود في وجه كل التيارات المعاكسة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
اشكرك على ردك المطول على المقال، وسرد تجربتك المميزة، وسعيدة أن في وطننا العربي من عنده ثقافة البحث عن علاج لإكتئاب ما بعد الولادة
اشكرك على ردك المطول على المقال، وسرد تجربتك المميزة، وسعيدة أن في وطننا العربي من عنده ثقافة البحث عن علاج لإكتئاب ما بعد الولادة
مقال حلو بالنسبة لي اول مرة اعرف الموضوع ده .. وده هيخليني اعرف اتعامل ازاي في المواقف دي
كم هو رائع أن أعرف أن هذه الكاتبة باحت بسر مخيف تعاني منه الأمهات بصمت …
أنا أنجبت مؤخرا طفلتي الثانية وأصبت باكتئاب حاد أشد بأضعاف مما كان مع مولودي الأول حيث لم تستمر الحالة أكثر من أسبوعين…أما هذه المرة فقد استمرت إلى مابعد الأربعين وخفت بالتدريج بعد العلاج والحمد لله على نعمته…
ونصيحتي لكل أم طالت معاناتها عن خمس عشرة يوما أو كانت الأعراض حادة جدا هي أن لاتتأخري أو تترددي في مراجعة الطبيب النفسي من أجل البدء في عمل جلسات علاجية أو تناول دواء مضاد للاكتئاب لفترة محدودة قد لاتزيد عن شهرين إلى ستة أشهر.. وأغلب هذه الأدوية آمنة ولله الحمد ولكن يجب تناولها تحت إشراف طبي…
أول خطوة لتجاوز هذه المحنة هي أن تعرف الأم أنها ليست وحدها…وأن نسبة كبيرة من الأمهات تصاب به ولكن نختلف في طريقة تعاملنا مع هذه المحنة..وفي المجمل فإن مرض الاكتئاب يحل في المرتبة الثانية في أكثر الأمراض انتشارا حول العالم بين الجنسين …لذلك لاتجزعي ولا تخافي ولاتعتقدي أنك الوحيدة وأنه لاحل لمشكلتك…
ثانيا: لاتخافي/ لاتخافي/ لاتخافي، فالمحنة سوف تعبر حتى ولو طالت، وما أنزل الله من داء إلا وجعل له الدواء ..والله لايكلف نفسها إلا وسعها، وأنتِ لم تبتلي بهذا البلاء إلا لأن الله تعالى يعلم قدرتك وقوتك وطاقتك في مواجهة هذه المحنة…
لذلك آمني بقوّتك وثقي بقدرتك على المواجهة ، فأنتِ تملكين نور الله في داخلك… وهو من يمدّك بهذه القوة الرائعة التي حصلتِ بها على شرف الأمومة..
ثالثا : لاتخجلي من طلب المساعدة أو تشعري بالعار بسبب مشاعرك ، لأنه يجب أن تعرف الأم أنه لاذنب لها فيما يحصل لها من سوداوية وأفكار غريبة …
فما يحصل فيها هو قصور شديد في هرمون السيروتينين ناتج من عاصفة الهرمونات بعد الولادة…فالتغيرات التي تحصل في جسم الأم كبيرة ورهيبة وتحصل في غضون ساعات وأيام ومن الطبيعي جدا جدا أن تكون ردة فعل المخ هي الاكتئاب….بالإضافة إلى نشاط مفرط في مركز التوتر …
وإذا كان الإنسان الطبيعي لما يصاب بالحمى أو الإنفلونزا او حتى نزلات البرد البسيطة يشعر بالتوتر والنرفزة والضيق فمابالك بالأم وقد خرجت منها روح ومرّت بمعجزة الحياة العظيمة التي ذكرت في القرآن الكريم …
أيقني يقينا أن كل هذا سيزول بإذن الله بعد أسابيع أو شهور والعلاج قد يخفف هذه المدة وربما تخرج الأم من هذه المحنة أحسن مما كانت وأقوى..
إذا كنتِ أما عاملة فعودي لروتين حياتك القديم بأسرع وقت… فرغم صعوبة ذلك إلا أن العودة لنظامك القديم في الحياة اليومية وبالذات عملك يساعدك كثيرا في تخطي المحنة … وكذلك رؤيتك لزميلاتك واختلاطك بالآخرين وملأ يومك بالأنشطة..
وكما ذكرت الدكتورة أنوار أبو خالد أن هذه الابتلاءات وبالذات الاكتئاب والسوداوية هي فترة لتطهير الروح وعلاجها مثل الحرارة بالضبط، وقد يخرج الإنسان بعدها وقد صقلت روحه وصارت أكثر قوة وأكثر إشراقا…وصارت مناعته لنوائب الدهر أكثر وأكثر..
لذلك لاتفقدي ثقتك بنفسك، وواظبي على حمد الله وشكره أثناء نوبات الاكتئاب ولاتترددي في تناول مضادات الاكتئاب لو نصحك الطبيب بها ، فهي أشبه بأدوية تنظيم الهرمونات وعملها في الغالب هو تنظيم هرمون السيروتينين المسؤول عن تعديل المزاج والصحة العقلية وتخفيف التوتر وتنظيم التفكير..
افحصي مستوى فيتامين ب12 وفيتامين د ووظائف الدرقية إذ ربما يكون هناك قصور بسيط في هذه العناصر في جسمك مما يسلتزم علاجا غذائيا أو بالمكملات ..
كذلك واظبي على قراءة سورة يس والنور وفصّلت وماتيسر من القرآن الكريم ، فمن تجربتي كانت هذه السورة العظيمة سلوى وعزاء لي بل لمست أثرها فوريا في نفسي..
تمنّيت لو أني عرفت عن هذا الكتاب مبكرا إذ ربما ساعدني… ولكنها الآن فرصة لمشاركة تجربتي مع الأمهات لأني أعرف شعور الخوف والألم الذي تمر به الأم في تلك المحنة…وأعرف أن مشاركة التجارب الناجحة بالذات هي أفضل وسيلة للتخفيف عن الأم المبتلاة..
وأخيرا عزيزتي الأم التي تعاني بعد الولادة: تذكري أن أجر الأم منذ حملها وولادتها إلى أن تفطم رضيعها هو كأجر الشهيد المتشحط في دمه في سبيل الله، وأن هذا الأجر العظيم الكبير ليس إلا بسبب المشقة والمصاعب والأهوال التي تعانيها الأمهات وعلى رأسها الحالة النفسية بعد الولادة والتي ربما يهون عندها ألم الولادة نفسها…
اسم الكاتبة هو: الف شفق
سعيدة إن المقال عجبك ^_^ ومتفقة معاكي في كل اللى قولتيه، للأسف المجتمع بتاعنا مش بيتقبل غير الصور اللى خياله بس، وأي محاولة للتمرد او حتى التعبير عن الضعف البشري غير مقبولة
سعيدة إن المقال عجبك ^_^ ومتفقة معاكي في كل اللى قولتيه، للأسف المجتمع بتاعنا مش بيتقبل غير الصور اللى خياله بس، وأي محاولة للتمرد او حتى التعبير عن الضعف البشري غير مقبولة
مقال رائع ومؤلف مميز فعلاً ، المرأة العربية مازال يُقرر عنها كيف يجب أن تعيش، بمن ترتبط …ما شكل أحلامها وطموحها …حتى كيف يجب أن تحس…لذا فمن المغالطات الكبرى أن إحساس الأم هو أسعد إحساس ، قبل أن تكون الأم أما هي امرأة وكائن إنساني يتأثر بمحيطه كثيراً ومعاناة المرأة العربية قادم من كبت أنوثتها وإنسانيتها من طرف العقلية الذكورية والنظام المجتمعي ككل للأسف،فحين تقول البيبي بلوز فستجد تنكرا ومواجهة حتى من أقرب المقربين ، لأننا لسنا مستعدين لتقبل ثغرات ضعفنا …فسنظل دائما نلبس جلابيب آبائنا وسيبقى الكبت والإرهاب لصيق بهويتنا .