في أعين طبيب إنجليزي: ساعة عدل واحدة الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية
غريب أن تجد عنوانًا مقتبسًا من حديث نبوي والمؤلف أجنبي غير مسلم! في هذا المقال أتحدث عن الكتاب الأسود “ساعة عدل واحدة”، وهو كتاب مترجم كتبه طبيب إنجليزي يدعى “سيسيل ألبورت” أثناء تواجده في مصر في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، تحديدًا من عام 1937 إلى عام 1943، تحدث فيه عن أحوال مصر الطبية والسياسية والاجتماعية وأوضاع الفلاحين، وترجمه إلى العربية سمير محفوظ بشير، وهو من إصدارات دار الهلال 2009.
نرشح لك قراءة: يوميات مصرية – كتاب عن مصر عام 1984 بعيون الكاتب الإنجليزي ويليام جولدينج
الكتاب الأسود ساعة عدل واحدة
يعتبر المؤلف أن هذا الكتاب هو الكتاب الأسود الثاني الذي يُنشر في مصر في غضون ثلاث سنوات، الأول هو كتاب مكرم عبيد باشا، والثاني كتابه هذا. الأول كشف الفساد السياسي، والثاني يكشف فيه سوء المنظومة المصرية، فمؤلفه سيسيل ألبورت كان يكتب مذكراته ويدون ملاحظاته أثناء وجوده بمصر، وكتبه في كينيا وهي البلد التي سافر إليها بعد سفره من مصر في أوائل عام 1944.
كان الغرض من تأليف كتاب ساعة عدل واحدة هو الدفاع عن الفلاحين المصريين، والفقراء عمومًا والمرضى خصوصًا، وستجد في هذا الكتاب أمورًا نتحدث عنها كأنها وليدة هذا الزمن أو هذه الألفية -مثل الانحدار الأخلاقي وفساد الذمم- لكنها قديمة وجذورها ضاربة في الأرض المصرية.
ولا تنس أن المؤلف إنجليزي؛ لذلك فهو منحاز إلى الإنجليز في كثير من الأحيان، ويرى دولته بعين الإجلال والتقدير، ونحن نراها البلد المحتلة، لكنه غير ملام على هذا الانحياز فهي بلده.
كما أنه ينتقل في الكتاب ويقارن في بعض الأحيان بين وضع الطب الإنجليزي والمصري من حيث المستشفيات والنظام والأساتذة والطلبة، ويستطرد في أحيان أخرى حول الوضع السياسي المصري وانتقد كثيرًا منها كما سيظهر لنا.
تحدث سيسيل ألبورت في كتاب ساعة عدل واحدة عن الصلة الوثيقة بين كليات الطب المصرية والإنجليزية، ففي عام 1884 كان أول بريطاني يخدم في أجهزة الصحة المصرية وهو الدكتور ساندوتش، ونشأت الرابطة الأولى بالكليات الملكية البريطانية سنة 1902.
من مشكلات العلمية
من الصدمات التي تعرض لها كتاب ساعة عدل واحدة مشكلة الأبحاث العلمية وسرقة المجهود التي نعرفها جميعًا، وطوال الوقت نسمع الأحاديث والقصص حول أستاذ سرق مجهود طلابه، أو لم يشر إلى مساعديه ونسب الفضل كله لنفسه، وهذه قضية قديمة يقول عنها سيسيل ألبورت:
“صدمت عندما توجهت إلى مصر واكتشفت أن العلماء المصريين نادرًا أو أبدًا ما يعترفون بالجهود التي ساهم فيها مساعدوهم، يحدث عكس ذلك في إنجلترا، أعرف أستاذًا في جامعة فؤاد الأول بالقاهرة نشر 175 مقالًا بحثيًا على مدى تسع سنوات، دون أن يشير أبدًا لمساهمات مساعديه”.
أزمة إدارة مستشفى فؤاد الأول وافتتاحها
الأهم ترتيب الأوراق وفخامة الأوراق، فالبيروقراطية تهمها الأوراق والشكليات أكثر من المضمون، وهذا وقع فيه ألبورت، فمن المشكلات الإدارية كان رئيسه الدكتور علي باشا إبراهيم الذي يرفض أي بادرة لتحسين مستوى المؤسسة التي يرأسها لأنه موقن بكمال ما أنشأه، فهو المؤسس الأول لمستشفى فؤاد الأول التعليمي وأي تحسين مطلوب يجب أن يصدر منه.
ووصف مستشفى فؤاد الأول بأنها فيل أبيض ضخم، أو هو ضريح جسيم أبيض أكثر من كونه مستشفى، تفخر الجامعة بضخامة المبنى الذي يعتبر أكبر من أربعة مستشفيات كبرى في لندن، لكن التجهيزات كارثية، فلا يوجد مقعد يجلس عليه الطالب ليكتب أو يستخدمه أقارب المرضى للجلوس عليه أثناء الزيارة، لذلك يتشاركون في السرير مما يؤدي إلى انتشار الأمراض، ولا يوجد أغطية كفاية، فتنشط الأمراض في الشتاء.
ويوم الافتتاح لم تكن الألواح الزجاجية ثبتت على نوافذ الممرات مما حول الممرات إلى ثلاجات، وانتشر الالتهاب الرؤي، ولم يكن هناك عازل يمنع دخول الذباب، ولم يكن هناك تدفئة مركزية، كما أنه تم إنفاق أكثر مليون ونصف من الجنيهات لعمل هيكل خرساني لدار عرض خاوية على عروشها، كانت تكفي لتجهيز المستشفى بكل ما يلزمها من مهمات ويتبقى رصيد لبناء أربع أو خمس مستشفيات صغيرة كاملة العدة.
الفلاحون بين مدح وإشفاق
الفلاحون مظلومون منذ الأزل، وقع على عاتقهم مسؤولية غذاء مصر، وعلى مدار العصور كان المحتلون يعاملونهم معاملة سيئة، حتى عندما تحمل المسؤولية السياسية البشاوات، لم تتغير سياستهم عن سابقيهم، وقد مدح ألبورت الفلاحين المصريين وقال عنهم:
“الفلاحون المصريون يمتازون بأنهم على قدر كبير من اللطف والأدب والكرم والقدرة على العمل المجهد الشاق، وهم سلاسة حضارة أقدم كثيرًا من الحضارة اليونانية والرومانية والأمريكية، وللأسف رزحوا تحت نير حكم عدد كبير من المستغلين وأصبحوا عبيدًا لقرون عدة”.
واقتبس مؤلف الكتاب الأسود من تقرير كتب عن أوضاع الفلاحين سنة 1943:
“يحمل الفلاح المصري فوق كاهله كل وزن الهرم الاجتماعي تقريبًا فهناك أربعة ملايين من الفلاحين يعملون في الحقول مع عائلاتهم، لدعم اثني عشر ألفًا من مالكي الأرض ومائتي ألف بيروقراطي والوف من تجار القطر والمرابين المنتشرين في القرى بالإضافة إلى البنوك المتخصصة في رهن الأراضي ومصدري القطن الكبار الذين تنبع كل أرباحهم من جهد وعرق الفلاح”.
ويذكر إحصائية جاء فيها أن من بين 3.6 مليون فلاح ذكر البحث أن 1.2 مليون منهم لا يملكون أرضًا، 37% من الأرض مملوكة للأفراد يملكها 12 ألف شخص، 30% من الأرض المملوكة يحوزها 150 ألف شخص من متوسطي الحال، 33% من الأرض المملوكة يحوزها 2.5 مليون فرد من صغار الفلاحين بمساحات صغيرة جدًا بالكاد تكفي إشباع حاجات فرد واحد، لذا يلجأ الفلاح من هؤلاء إلى استئجار أرض إضافية من كبار الملاك، أو أن يؤجر جهده كعامل زراعي للحصول على الكفاف من العيش الذي يطعمه هو وأسرته كبيرة العدد.
كما أن طعام الفلاح الذي يتكون إفطاره من الخبز المصنوع من الذرة المخلوط أحيانًا بقليل من القمح أو الحلبة ويبلع هذا الخبر بقليل من الشاي الأسود المحلى بسكر القصب… بعض العمال الزراعيين يأخذون معهم شرش مملح ينتج بعد صناعة الجبن (يقصد المش) مليء بديدان صغيرة تتراقص وتتقافز ويغمسون الخبز فيه”.
أما عن حياة أطفال الفلاحين فهي مأساة أخرى، إذا يموت الطفل بمجرد فطامه بسبب نقص البروتين، فمعدل وفيات الأطفال في مصر وقتئذٍ هو الثاني على مستوى العالم، فتبلغ نسبته مقارنة بإجمالي المواليد 26.5%.
فمصر بلد غني قادر على البقاء، يستطيع بكل سهولة أن يدفع ثمن الإصلاح اللازم لإعطاء الفلاحين حقوقهم المشروعة من معاملة طيبة ومستوى معيشي ملائم بعد خمسة آلاف سنة من العبودية.
الوضع السياسي البائس
السياسة فاسدة ويجب إصلاحها، في ساعة عدل واحدة تحدث كثيرًا عن السياسة في مصر فذكر فساد الانتخابات والرشاوى الانتخابية، حتى إن سنة 1941 لم يدل الممرضون الذين يعرفهم ألبورت بأصواتهم لأنهم يخافون من بلطجية حزب الوفد الذين يراقبون الوضع، وإذا علموا أن هناك من صوت لغير حزب الوفد يضربونه ضربًا مبرحًا، ويصف طبقة البشاوات بإنهم انتهازيون وهي طبقة: “لا تبحث سوى عن مصلحتها الشخصية”.
وفي بعض الأحيان يعترض على سياسة وثقافة الإنجليز وينتقدها فيقول: “إنني لا أفهم أبدًا ذلك الشعور العجيب الذي يسيطر على الإنجليز عندما يأخذون كل شيء من بلد ما ولا يعطون ما يقابله”.
مصر مكان للأوبئة والنساء المظلومات
مصر -للأسف- كانت مستوطنة بالعديد من الأوبئة منها البلهارسيا والدوسنتاريا، والأنيميا، والجدري والسل والطاعون، ومرض السكر ليس له مستشفيات أو أقسام خاصة، وليس هناك قوانين تمنع المرضى من البصق في الشوارع، وهذا كله يحتاج إلى علاج سريع، فالصحة في انهيار.
نرشح لك قراءة: إغاثة الأمة بكشف الغمة: كتاب المقريزي عن تاريخ مصر مع المجاعات والأوبئة
وضع النساء مزرٍ وصعب، وقد وضح هذا، فعلى الرغم من أن النبي يقول “الجنة تحت أقدام الأمهات”، فإن واقع النساء المصريات يشي بعكس ذلك القول، فالمسلم يستطيع أن يلقي بزوجته عرض الشارع بسهولة كأنما هي قفاز عتيق، وكثير من البائسات تخلص منهن أزواجهن وطردوا دون أدنى إنصاف ليمتهن حياة قلقة عمادها قد يكون البغاء أو التسول أو السرقة وكثيرًا منهن قد يفضلن الانتحار.
روشتة إنقاذ الموقف
في نهاية الكتاب الأسود بعد عرضه للمشكلات الصحية والإدارية والسياسة يحاول سيسيل ألبورت أن يكتب روشتة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وذكر أن مصر تحتاج إلى إعادة تنظيم وتنظيف، ويقصد بالتنظيف المعنى المجازي من تنظيف الذمم والعقول، فالمعيشة في القرى مستحيلة وتسعة أعشار الشعب المصري من الفقراء الذين ليس أمامهم أي بارقة أمل في المستقبل، وعلى الحكومة البريطانية أن تتخذ خطوات جادة لتمكين حكم هذه البلاد بواسطة حكومة عادلة متنورة وباتباع الأسلوب الديمقراطي الصحيح.
ثم فصَّل الاقتراحات بوجوب إنشاء جامعة سياسية مماثلة لكامبريدج أو هارفارد، وبعد الانتهاء من الدراسة فيها يُرسل الشباب في بعثات إلى الجامعات الإنجليزية أو الأمريكية، وبعد عودته يتحمل المسؤولية في الحكومة.
وهنا يمدح الشباب المصري ويقول:
“أذهلني أنهم ليسوا فقط بارعين وقدارتهم تماثل الأوربيين، لكنهم قادرون على القيام بأداء واجباتهم بكل ضمير حي وكفاءة ومقدرة، كما يجب تعليم الفلاحين، وخلق بيئة مناسبة للحياة والمعيشة”.
خاتمة.. الذين يكتبون عن فترات عاشوها ويأتي بعدهم من يقرأ ما كتبه السابقون يكون الموضوع أكثر تشويقًا وإثارة من الذي يكتب عن الماضي بناء على قراءاته أو تحليلاته أو كتب السابقين.
فشاهد العيان رؤيته مختلفة وأكثر معايشة وواقعية، لذلك فكتاب ساعة عدل واحدة كتاب مميز حيث كتبه رجل إنجليزي طبيب أثناء فترة الاحتلال، عاصر أحداثًا غاية في الأهمية، كان صاحب رؤية ورسالة ومبدأ في الحياة.
عندما تقرأ الكتاب الأسود ساعة عدل واحدة لمؤلفه سيسيل ألبورت تشعر أن ما يحدث منذ عهد الاحتلال ما زال موجودًا إلى الآن، بعض الأمور ينصح بها ونتحدث عنها حتى كتابة هذه السطور، هو في النهاية كتاب ثري به الكثير من التفاصيل والحكايات والتحليلات التي لم يتسع المجال هنا لذكرها كلها، لكن هو رغم حجمه – 388 صفحة – إلا أنه ستنتهي منه سريعًا دون أن تشعر بمرور الوقت.
اقرأ أيضًا للكاتب محمد أبو عوف:
- الصعلكة والفتوة: ظواهر لمعت واختفت في الثقافة العربية
- مثنوي لمولانا جلال الدين الرومي: ما دام قلبك قد تعلم إشعال الشموع
- حسن العواقب والكتابة النِسوية: حكاية أول رواية عربية في تاريخ السرد العربي!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.