الفتوة في الرواية العربية: مفهوم صاغه نجيب محفوظ وصقله الواقع المتناقض!
11 د
كلنا نعلم أن اللغة العربية تطورت، ومعها تطور العرب. وبما أن اللغة هي تجسيد لرغبات الإنسان، فلا يجب أن نتعجب من ظهور مصطلحات تتناسب مع تلك الرغبات، وتحاول تجسيدها بالقدر المطلوب. وربما إحدى أعجب وأغرب الكلمات العربية، هي كلمة “الفتوة” يا رفاق. مَن هم عاشور الناجي والجبلاوي وغيرهم من رفاق نجيب محفوظ في الرواية العربية؟ كل هذا سنعرفه اليوم.
الفتوة كلمة صنفها البعض على أنها عدائية، وصنفها البعض الآخر على أنها تنطوي على شهامة مهولة، بينما أتى آخرون وقالوا إنها مجرد تخفيف لوَقع كلمة (بلطجي) على الآذان. وبين هذا وذاك، احتار الناس، واحتار الكتّاب معهم. هل على الكاتب تنميط الفتوة في أحد تلك الأنماط المذكورة؟ أم يجب عليه البدء في إعادة صياغة تعريفٍ جديدٍ للكلمة من الصفر؟
العبقري الذي أخذ على عاتقه إعادة صياغة مفهوم الفتوة هو الكاتب الحائز على نوبل في الآداب، الأستاذ الراحل نجيب محفوظ عبد العزيز، وذلك في ملحمته العظيمة (الحرافيش). اليوم لن نتحدث عن حرافيش نجيب محفوظ فقط، بل سنتحدث عن مفهوم الفتوة في الرواية العربية الحديثة، والتي عمل على صياغه نجيب محفوظ نفسه، عبر أربعة أعمال من أبرع ما يكون.
الفتوة كمصطلح دائم التغيُّر
اختلفت تعريفات الكلمة من زمن إلى زمن، ومن كاتب إلى كاتب. لكن كاصطلاح، كلمة فتوة في الأساس مأخوذة عن كلمة (فتى)، وعبر وضع العديد من التشكيلات للكلمة، يمكن أن تكون جمعًا لكلمة فتى، أو تكون فاعلًا، أو أي شيء آخر. لكن أكثر المصطلحات الاشتقاقية انتشارًا هو المصطلح الذي يُرمَز به لشخصٍ بعينه. هذا الشخص يكون صاحب قوة وبأس، وعوده مشدود على الدوام.
وعرفه البعض على أنه شخص بين مرحلة المراهقة والرجولة، أي أن رعونة المراهق تركته، ورزانة الرجل لم يصل إليها بعد. في بعض الأحيان يكون الفتوة من أصحاب الشيم النبيلة والخِصال الحميدة، وبذلك يكون عادلًا بين الناس. وفي أحيانٍ أخرى يستغل قدراته البدنية وعلاقاته الوطيدة بالآخرين، وبذلك يكون ظالمًا، وفارضًا للإتاوات على أبناء منطقته، أو على كل من يطلب الحماية منه.
قلت في عنوان الفقرة أنه (مصطلح دائم التغيُّر)، حيث أنه بالفعل يتلبَّس أشخاصًا بسمات مختلفة في كل زمن. مثلًا في عصور الحكم الإسلامي، كان فرض الجزية من الخليفة على غير المسلمين، بمثابة إتاوة، وبذلك نحصل على التعريف العدائي لكلمة فتوة يا عزيزي. ومن الناحية الأخرى، وفي نفس العصور، عصابات الشطّار كان زعيمها يسرق الأغنياء (والخليفة منهم)، ثم يقدم الغنائم للفقراء من أهل المدينة، وبذلك يحقق التعريف النبيل للكلمة.
الفتوة في الرواية العربية
لهذا إذا أردنا الوصول إلى أرض صلبة نستطيع عليها القيام بصياغة تعريف له، فأنا أرى أن الفتوة هو شخص لديه قدرات بدنية عالية، وعلاقات وطيدة مع أُناس كثيرين. لكنه في النهاية إنسان، وبداخله نوازع تتضارب باستمرار، لذلك يمكن له أن يكون نبيلًا تارة، وعدائيًّا تارة أخرى. لأن البشر ليسوا لونًا واحدًا، أبيض أو أسود، لا. البشر درجات من الرماديّ، وفي مرة يغلب السواد عليها، وفي مرة يغلب البياض، ويظل التنقل بين الدرجات مستمرًا باستمرار الحياة ذاها. هذا ما وصل إليه نجيب محفوظ في أدبه، وهذا ما سنتحدث عنه في مقال اليوم.
نرشح لك قراءة: الكتب الأكثر استدعاءً في الأعمال الفنية.. ما علاقة نجيب محفوظ؟
ما الفيصل الذي رجحه الأدب للفصل بين الفتوة والبلطجي؟ الحرافيش مثالًا!
للإجابة عن هذه السؤال الهام، يجب التحدث عن واحدة من أهم الروايات العربية المعاصرة، لأحد أبرز كتّاب العصر الحديث. أجل، سنتحدث عن رواية “الحرافيش” للكاتب نجيب محفوظ والتي يكون بطلها الأول هو الفتوة الشهير، عاشور الناجي!
رواية الحرافيش أحدثت جدلًا مهولًا في الأوساط الأدبية، حتى أنه قال البعض عليها إنها رواية لا تمثل الواقع المصري، وأن ما يقوله نجيب محفوظ فيها مجرد افتراء على أهل الحواري، وكذلك تقليل من هيبة الدولة أمام حفنة من البلطجية. لكن هؤلاء البشر من أصحاب الفِكر اليوتيوبي، لا يرون أن نجيب قدم بالفعل التركيبة ذات النسبة الذهبية للنفس الإنسانية.
قدم إلينا إنسانًا يُخطئ ويصيب، يبطش ويرحم، ويكفر ويؤمن. قدم إلينا شخصية تأصلت فيها عادات وتقاليد المصريين، وانغمست في الدين منذ الصغر، حتى شبَّت واصتدمت بالواقع القاسي، وبذلك أمسكت العصا من المنتصف. عملت التنشئة الاجتماعية والدينية لشخصية عاشور الناجي في رواية الحرافيش للكاتب نجيب محفوظ على تكوين فلسفة تُطبق تعاليم الدين أجل، لكن بمنظور شخصي بحت. الفتوة في النهاية واحد من أبناء مجتمع الحواري المصرية، وتلك الحواري فيها ما قد يُهشِّم أي مبادئ سمحة لأي شخص تمامًا. إلا أن نظرة نجيب محفوظ لمفهوم الفتوة كانت نظرة إصلاحية، وبات الفتوة بالنسبة له هو القانون الوضعي على الأرض. يستمد جوهره من الدين، لكن تستمد يده التطبيقية قوتها من الواقع.
اعتمدت رواية الحرافيش على آلية انتقالية من فتوة إلى فتوة من أبناء وأحفاد عاشور الناجي، ولذلك باتت الرواية عبارة عن مجموعة حكايات وقصص متتابعة، تربطها خيوط الماضي بطريقة تمهد الطريق للمستقبل. لكن الطريق مهما حدث، يجب أن يكون إصلاحيًّا. ولذلك نجيب محفوظ لم يقدم بلطجيًّا، بل قدم الفتوة النبيل. البلطجي هو شخص يبطش ولا يبالي، ويتعدى على حقوق الإنسان، ويجابه الدولة، وليست لديه أي نيّة لنُصرة الضعيف أو نجدة الملهوف. بينما الفتوة (حسب تجسيد نجيب محفوظ بالطبع) هو الشخص الذي لا يفرض الإتاوات إلا على القادرين، وأموال الإتاوة تذهب لفقراء الحارة، وكان هذا هو عاشور الناجي بالطبع.
كما أن رجال عاشور الناجي يؤمَرون بكسب الرزق بالعمل الشاق، لا بالبلطجة على الآخرين. وبالرغم من سطوته الكبيرة على الحارة، إلا أنه لا يتعدى على القانون، ويرجع خطوة للخلف أمام هيبة الدولة. شخصية الفتوة التي قدمها نجيب محفوظ هنا هي شخصية إصلاحية من الطراز الرفيع، ولا يجب قولبتها بأي حال من الأحوال، مع شخصية البلطجي التي بدأت في الظهور بالأدب العربي لاحقًا، وأرخت عن كاهلها كل المبادئ الإنسانية التي تُجبر الإنسان على التحضر، وتمنعه من التساوي مع الحيوانات المتجامعة في مكبّات النفايات بكل صلف وغرور.
نرشح لك قراءة: أهم كتب نجيب محفوظ: أديب نوبل والملقب بأفضل من كتب بالعربية
الشيطان يعظ.. أجل، نجيب محفوظ لم يتوقف عند الحرافيش!
“الشيطان يعظ” هي مجموعة قصصية في التصنيف الأدبي، لكن اعتبرها البعض رواية متكاملة الأركان. من المعروف عن نجيب إدخال كل حكاياته وشخصياته في قالب درامي واحد يتميز بوحدة المكان والحالة الشعورية، مع اختلاف الزمان ومقتضياته.
في الشيطان يعظ يا رفاق، يقف نجيب محفوظ على الحد الفاصل بين الواقع واليوتيوبا. ستجد في هذه المجموعة القصصية إجمالي 12 قصة، لكن ولا واحدة منهم تحمل عنوان المجموعة ولا تتحدث عن مفهوم الفتوة بشكلٍ واضح، أليس هذا غريبًا بعض الشيء؟ في الواقع، لا. إنه ليس غريبًا على الإطلاق، ولهذا السبب بالتحديد اشتهرت المجموعة القصصية.
أراد نجيب سحب البساط من أسفل مفهوم (الترابط)، وبسطه أسفل مفهوم (التشابه). في الروايات، يوجد ترابط بين الأحداث، وفي القصص لا يوجد هذا الترابط. لكن نجيب أراد تحويل القصص إلى روايات قصيرة متناغمة، وهذا لن يحدث إلا إذا أزاح عن القصص عناوينها، وأسامها فصولًا لرواية واحدة، وهذا ما لم يريده أبدًا. وهنا قرر الأديب الراحل عمل مجموعة قصصية تتشابه كلها في مفهوم (الشيطان).
في قصصه، سنجد أنفسنا في الأبطال، بجميع تناقضاتنا ونوازعنا المتضاربة على الدوام. في قصصه لا يوجد أبيض أو أسود، بل درجات من الرماديّ. وهذا ظهر جليًّا في الشقّ الثاني من العنوان (يعظ). أشرتُ منذ قليل أننا سنجد الشيطان في جميع قصصه، لكن سنجده أيضًا يقوم بالخير في بعض الأحيان، وهنا أتى توظيف كلمة (يعظ). يقول الكاتب هنا أن البشر كلهم شياطين واعظة، سواء علموا هذا أو لا. وهل يوجد شيطان واعظ أفضل من الفتوة يا أعزائي؟
شيطان نجيب الواعظ هو الفتوة في كل زمان ومكان. وبما أن الشيطان هو أنت، فبالتأكيد أنت الفتوة كذلك. سواء كنت الفتوة بالنسبة للمجتمع، للأسرة، أو حتى لذاتك الضعيفة.
في تلك المجموعة ربما ستجد عاشور الناجي تارة، وربما أحفاده تارة أخرى. لا إجابة ثابتة، لا مفهوم نهائي للفتوة بعد.
فتوة العطوف.. وجه آخر للعملة
في المجموعة القصصة “فتوة العطوف” التي نادرًا ما سمعنا عنها، قصة قصيرة بنفس العنوان، يتحدث نجيب محفوظ عن الفتوة بطريقة مختلفة بعض الشيء. هنا هو لا يُظهره كشخص نبيل، أو شخص سيء، أو حتى شخص يتأرجح بين كليهما. هو يظهر كل تلك الفئات في شخصٍ واحد، لكن في النهاية لا يقدمه كدراسة شخصية، بل كدراسة مردود أفعال.
بدأت حياة فتوة العطوف كفتى يهوى العِراك والنِزال على الدوام. ثم اشتد عوده وتمرَّس على فنون القتال والضرب بالرأس والكرسي والزجاج وكل شيء يخطر في بالك. ومع الوقت بات هو خليفة فتوة العطوف الأكبر، وبذلك بدأ في فرض إتاوات على الأغنياء وأصحاب التجارات الكُبرى، كما أنه عمل على حماية بائعات الهوى. ومع حركة الألقاب في مصر، أصبح ينعت (الباشا) بـ (الكروديا). لكن في نفس الوقت يتغنى بمعرفته له قبل أن يحمل اللقب.
في يومٍ ما تغيّر الضابط المسؤول عن حيّه، وقرر الإيقاع به وكسر شوكته. وبالفعل، ظهر ضعفه للناس، وسارعوا في إعطاء الدليل خلف الدليل للشرطة كي تُلقي القبض عليه. وبعد خروجه من السجن، لم يجد أي شخص له في الحياة أبدًا. وكانت فرصته الوحيدة هي سرقة بذلة للعمل كسائق تاكسي، وتم القبض عليه بتهمة السرقة حتى.
أرى أن الهدف من القصة هو (دراسة مردود الأفعال). ربما يريد نجيب هنا أن يلفت نظرنا إلى أن الأفعال التي تقوم بها في حياتك ككل، يمكن أن لا تتوافق مع النتيجة النهاية لفعلٍ واحد فقط منهم. يمكن لموقف واحد، أن يُدمر حياتك، سواء كانت جيدة، أو غير ذلك.
نرشح لك قراءة: في رواية عصر الحُبّ يقول الراوي: الكثير من الحُبّ ولا عائد!
أولاد حارتنا.. الفتوة جزء منها، لكن جزء لا بأس به فعلًا
نجيب محفوظ بدون شك هو بطل مقال اليوم، وفعلًا لا يجب ذكر الفتوة يا رفاق، إلا وذكرنا اسمه معه.
رواية “أولاد حارتنا” هي واحدة من أبرع إنتاجات محفوظ الأدبية، وكذلك هي واحدة من الأعمال التي تمت الإشارة إليها في إعلان فوزه بجائزة نوبل في الآداب بعام 1988. أجل، نال محفوظ الجائزة على إثر التراث الأدبي الذي تركه للإنسانية، لكن رواية أولاد حارتنا بالتحديد هي التي جعلت اسمه يطفو على السطح بشدة قبل إعلان فوزه بالجائزة. وبعيدًا عن الجدل الدائر حول أولاد حارتنا كرواية تعمل على الغوص حتى العمق في المفهوم الشعبي للحرية المرتبطة بالدين تارة، والرغبة الإنسانية للعيش تارة أخرى، تناولت تلك الرواية مفهوم الفتوة بطريقة مستترة بعض الشيء، لكن جيدة كذلك.
في الرواية، لم يتخذ نجيب عاشور الناجي مثالًا لقصته هنا، بل تحدث عن الجبلاوي يا أعزائي، بطله الحائر. عانى الجبلاوي كثيرًا مع أبناء حارته. حيث تناول نجيب مفهوم الفتوة هنا بمنظوره الفوضوي والفجّ. أظهر الفتوة على أنه مجرد شخص (بلطجي) يعمل على استغلال الآخرين من أهل منطقته، دون تحقيق فائدة فعلية لهم على الإطلاق. مفهومه عن الفتوة هنا كان أنه شخص يعمل لنفسه، على حساب الآخرين. ولهذا لم يُعجب الجبلاوي بالذي يحدث في حارته أبدًا.
ماذا يريد نجيب محفوظ في النهاية؟
هذا يدفعنا للتساؤل فعلًا، أي نسخة من الفتوة يريد نجيب أن يجعلنا نذعن لها؟ من هو الفتوة الحقّ بين كل هؤلاء؟ هل هو عاشور الناجي فعلًا؟ أم الجبلاوي؟ أم مَن؟ وللإجابة على هذا السؤال، يجد أن نحكِّم المنطق قليلًا.
المنطق يقول إن الفتوة مجرد إنسان يعيش تحت لواء الدستور المدني للدولة، أي أن له حقوق وواجبات طبيعية مثل أي شخصٍ آخر. وإذا أراد تطبيق القانون في يومٍ ما، عليه أن يصبح يدًا تنفيذية لقوانين الدستور، أي أن يكون ضابطًا أو قاضيًا. ولهذا الفتوة بمفهوم المنطق، هو شخص خارج عن القانون، حيث أنه حتى إذا كان يفرض الإتاوة على الأغناء من أجل الفقراء، فالدولة تفعل ذلك في صورة الضرائب التصاعدية على الدخل. أي أن سلطته التنفيذية هنا هي سلطة شخصية فوق سلطة الدولة، حتى وإن كانت من الخارج تحت سطوتها. وهنا يكون الفتوة الصالح حتى، مجرمًا.
لذلك نجيب لا يريد لنا أن نقول أن هذا صالح وهذا آثم، لا. نجيب محفوظ أراد تناول الفتوة في أغلب أعماله لأنه يمثل الشريحة العُظمى من البشر فعلًا. وإذا لم تكن أنت فتوة في حيّزك الجغرافي في الشارع، يمكن أن تكون فتوة في حيّزك الجغرافي في المنزل. ويمكن تصغير الحيّز أكثر حتى نصل للفراغ القابع فيه مخكّ بداخل جمجمتك. يمكن أن تكون الفتوة لنفسك، لأسرك، ولمجتمعك، ربما وأنت لا تعلم هذا حتى. الفتوة شخص متناقض ويحاول الوصول للصواب دائمًا، وبما أن الصواب مبني على فلسفة شخصية متغيرة، فهو متغير كذلك.
الفتوة هو أنت، أنا، وكل مَن عاش يومًا على هذه الأرض. يمكنك تعميم أو تخصيص المصطلح كيفما تشاء يا عزيزي، لكن في النهاية، يظل الفتوة فلسفة شخصية، ولا يمكن تحديد فلسفة نهائية للحياة، لأن الحياة ذاتها رحلة للبحث عن الفلسفة المناسبة للذات الإنسانية.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.