هوامش المقريزي: التاريخ المصري أعقد من قصة زواج قطر الندى ومنع الملوخية
6 د
انطلاقة الهوامش
بدأت الهوامش من خلال عمود ثابت في جريدة الجمهورية المصرية والتي تخيل فيها صلاح عيسى أنه سيسرد الوقائع التاريخية من خلال مخطوطة غير معروفة للكثيرين وجدها صدفة، وهذه المخطوطة كتبها المقريزي.
لماذا المقريزي؟
تقي الدين المقريزي غني عن التعريف فلا يوجد من لم يسمع به من قبل لكن يمكن ألا تكون مدركًا لمدى تأثيره في عالم التأريخ، المقريزي لُقِب بشيخ المؤرخين، فقد عاصر أهم وأغرب الحقب التاريخية في مصر وتتلمذ على يديه جهابزة من المؤرخين مثل السخاوي وله كتب تعد مرجعًا ضروريًا لكل مهتم بالتاريخ المصري أشهرها “إغاثة الأمة بكشف الغمة” و”شذور العقود في ذكر النقود”.
لذلك اختار صلاح عيسى اسم المقريزي لينسب له ما توصل إليه بعد البحث في أمهات الكتب والرجوع لأضخم المراجع التاريخية، ففضلًا عما ذُكِر عن المقريزي سلفًا فهو يتمتع بعدد من الصفات التي تميزه عن بقية المؤرخين، فالمقريزي اهتم بالحياة اليومية وبالعوام.
بالطبع شغلته السلطات الحاكمة لكنه ناقشها من منظور عامة الناس، يُعرف أيضًا عن بعض المؤرخين عدم الدقة في نقل الوقائع سعيًا لكسب رضا الحكام أو اللجوء لجمع المعلومات والحوادث من أي مصدر لكن المقريزي اتسم بالحياد والموضوعية فلم يغير نظرته أو رؤيته للتاريخ تقربًا للسلطة؛ سيمحنك ما سبق صورة وسببًا لاختيار اسم المقريزي وكذلك صورة عن محتوى الكتاب.
اقرأ أيضًا:
- إغاثة الأمة بكشف الغمة: كتاب المقريزي عن تاريخ مصر مع المجاعات والأوبئة
التاريخ يعيد نفسه في هوامش المقريزي
محتوى هوامش المقريزي نُشِر في جريدة الجمهورية بداية من عام 1972م حتى 1975م أزعجت هذه الفترة المثقفين في مصر ومنهم صلاح عيسى بسبب هزيمة 1967م وما تلى حرب أكتوبر من اختلافات في الحياة بشتى جوانبها، ونظرًا لصعوبة الحديث عن الأسباب الحقيقة للهزيمة في النكسة وقوة القبضة السياسية بعد حرب أكتوبر بما لا يدع مجالًا لظهور صوت معارض.
منحت هوامش المقريزي الفرصة للكاتب صلاح عيسى ليُسقط ماضيه على واقعه ولا زالت هذه الحيلة ناجحة حتى الآن عبر 180 أقصوصة من تاريخ مصر، وسنستعرض من الكتاب عددًا من هذه الحوادث التي تبدأ من العصور الوسطى في مصر حتى بعد ثورة 1919م.
الحكاية الأولى – امنع الكلام!
في كل مرة تُطبق فيها سياسات غير مقبولة شعبيًا يلجأ الحكام لأسلوب تكميم الأفواه بمنع الحديث عن هذه السياسات وهذا ما حدث مع الفاطميين عندما سعوا لإجبار المصريين على إتباع المذهب الشيعي وترك المذهب السني، فوقف الخطباء على المنابر ينددون بأوامر الفاطميين بشكل غير مباشر فاتجه الخطباء للحديث عن الفرق في طريقة طهي العجة والبصارة بين المصريين والشوام، ليخبرهم بطريقة ملتوية عن منعه من الحديث عن أحوال البلاد ولاحقًا مُنع من الحديث عن البصارة والعجة!
الحكاية الثانية – فوائد السب
في عهد السلطان قنصوة الغوري عانى الشعب من الغلاء بشكل مبالغ فيه إلى جانب الطاعون فوضع السلطان قانونًا باقتصاص جزء من تركة ضحايا الطاعون لمقاومة غلاء الأسعار، فلم يتغير شيء بل زاد غضب الشعب وعندما نزل السلطان إلى الشوارع سبه الشعب ورشقوه بالألفاظ النابية وبعد هذه الإهانة تغير أسلوب قنصوة الغوري جذريًا واحتفى الشعب بالسلطان، وحفظًا لماء وجهه أشاعوا أن سبب التغيير هو حلم رواده في منامه وسعى لتحقيقه.
الحكاية الثالثة – تكفير من هب ودب
تهمة التكفير حاليًا صارت مستخدمة أكثر من الملح في الطعام فكل من يختلف مع شخص يتهمه بالكفر ولهذه التهمة مفعول السحر في المجتمعات العربية نظرًا لارتباط الشعوب العربية الشديد بالدين، لكن هذه التهمة بدأت منذ اُتهِم بها عمر مكرم بعدما دخل في مناظرة مع مناصري الوالي العثماني أحمد باشا وتشجيع الشعب على تنفيذ عصيان عام وعزل الوالي فاتهمه المواليين للوالي بالكفر.
الحكاية الرابعة – أنت يا ديمقراطي!
مرت مصر بوقت كانت الديموقراطية فيها سُبة على جبين أتباعها حتى أن المفكر أحمد لطفي السيد والذي أطلق عليه العقاد لقب أفلاطون العرب خسر انتخابات الجمعية التشريعية بالدقهلية بسببها، حيث أشاع منافسه أنه والعياذ بالله “ديموقراطي” أي يطالب بالمساواة بين المرأة والرجل حتى تتزوج 4، ويسعى للخروج عن العادات والتقاليد.
صلاح عيسى ومشروع القارئ العادي
إذا نظرت للقصص السابقة بمنظور سطحي ستجدها قصص عادية أو شبيهة بالنوادر لكن صلاح عيسى لم يعالجها بهذا الأسلوب السلس لمجرد التسلية فكان للكاتب صلاح عيسى مشروع أسماه “القارئ العادي”، حينما وجد أن الوقائع التاريخية أو الأمور العميقة يتم تقديمها بأسلوب لا يناسب رجل الشارع المصري العادي؛ لذلك سخر وقته للاستثمار فيه.
فأفنى سنوات عديدة يبحث في كتب التاريخ وسير المؤرخين سعيًا لتربية قارئه العادي فكريًا وتاريخيًا، ويلهمه القدرة على قراءة المستقبل واكتشاف حلول واقعه الذي يؤرقه دون الحاجة لخطاب مباشر حافل بالأوامر.
هذا القارئ العادي لم يستهدفه الكثيرون فعديد من الكتاب الصحفيين يشعرون أن النجاح يكمن فقط في مخاطبة الصفوة والمثقفين أما القارئ العادي فيكفيه معرفة أخبار اليوم فقط، لكن متى كانت حلول المجتمع والثورات نابعة من المثقفين فقط؟
أنقذ يومك بأجدادك
الكتاب لا يمنحك الثقافة العامة فقط بل يمكنك إسقاط بعض الحيل داخل القصص على واقعك فمثلًا إذا طبقنا على أحد القصص السابقة كقصة البصارة والعجة بعد تعرضك لتفاصيلها قد تكتسب مهارة الحديث عما تريد دون الحديث عنه في نفس الوقت، أو تتقن حيلة اختيار التهمة المناسبة للشخص المناسب في الوقت المناسب لتظفر بما تريد كتهمة التكفير ولكن مع استبدالها مثلًا بالمداهنة أو التملق.
بالطبع ليست كل هذه الحيل شريفة واكتسابها ليس مدعاة للفخر لكن على أقل تقدير ستتمكن من اكتشاف هذه الحيل حتى لا تسقط فريسة لها، أما عن سؤالك عن صعوبة تكرار نفس الحيل فاطمئن عزيزي القارئ البشر هم البشر، فبعد مطالعة كتاب هوامش المقريزي ستجد نفسك تتمتع بذكاء اجتماعي رائع إلى جانب ما ذكرناه سلفًا.
هوامش الهوامش
في ختام كتاب هوامش المقريزي يأخذك صلاح عيسى في جولة حول ملابسات كتابة هذه الهوامش وما تعرض له من سجن واعتقالات هو والقائمين على جريدة الجمهورية في سبيل الارتقاء بالقارئ والبعد به عن مهرجين الصحافة في هذه الفترة، ومعاناته بسبب عدم امتلاكه لمهارات صحفية فريدة في هذه الفترة كالمداهنة واستمالة القراء بطرق عاطفية رخيصة وما إلى ذلك، وحرصه على مخاطبة عقل القارئ وستمنحك الهوامش على الهوامش خلفية تاريخية لا بأس بها ستساعدك على استيعاب مضمون الكتاب وهضمه بشكل سريع وممتع.
وينتقل فيها صلاح عيسى لتفنيد الفارق بين الحياد والموضوعية فالحياد جريمة في نظر صلاح عيسى فالكاتب يقدم الوقائع التاريخية من جانب الشعب وفي صفهم، فالموضوعية هي عدم تضخيم الأحداث أو لي ذراع الأحداث لتوصيل معنى معين، أما الحياد فلا ضرورة له لأن الأحداث مهما صغرت فوقعها عظيم على العوام لذا فالحياد خيانة للشعب الذي يتطلع لأي فرصة يُسمع فيها صوته.
لك أيضًا:
- منها الجريمة العثمانية: كتب بنكهة تاريخية يرشحها إبراهيم عيسى
- ليست مجرد ورقة: خطابات سينمائية مابين البطولة وتحريك الأحداث
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.