تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

في عالم ميكانيك الكم الأغرب من الخيال .. من الحتمية إلى الاحتمالات!

ميكانيكا الكم
رائد شيا
رائد شيا

9 د

تعد هذه المقالة استكمالاً لكل من مقالي “تجربة الشق المزدوج .. التجربة التي تحوي ألغاز ميكانيك الكم“،  و “المزيد من الألغاز في تجربة شقي يونغ“، فإن كنت لم تقرأهما بعد، فعليك بذلك الآن، أو أن تقرأ الثاني على أقل تقدير.

كنا قد رأينا الغرابة الهائلة التي واجهتنا بها تجربة الشق المزدوج، والتي سنلخص نتائجها كما يلي:

  • عند إطلاق الإلكترونات باتجاه الحاجز الذي يحتوي على الشقين واحداً واحداً، وبفتح الشقين معاً، سنرى نمط تداخل على الشاشة، وسيتصرف الإلكترون كموجة.
  • في حين أنه عند وضع جهاز قياس لمعرفة من أي شق عبر الإلكترون، فإن نمط التداخل سيختفي، وسيتصرف الإلكترون كجسيم.

فما الذي نستطيع استخلاصه من ذلك؟


إعادة النظر في مفهوم الحتمية

قبل ميكانيك الكم، كان الفيزيائيون ومنذ أيام غاليليو

ونيوتن

معتادين على توصيف الطبيعة بقوانين حتمية. ومعنى ذلك، هو أنه لو كررنا نفس التجربة ضمن نفس الظروف تماماً، فسنحصل على نفس النتائج. مثلاً، فلتتخيل أنك تقوم برمي كرة صغيرة أفقياً من سطح بناء ما، ولنفترض أن هذه الكرة صغيرة وكثيفة بحيث نستطيع أن نهمل تأثير الهواء عليها. عندها ففي كل مرة ترمي هذه الكرة من نفس النقطة في البناء وبنفس السرعة والاتجاه، فستسلك الكرة في الهواء نفس المسار.

وقد فسرت الفيزياء المصوغة وفق قوانين حتمية، والتي ندعوها بالفيزياء الكلاسيكية، كل شيء تقريباً كان معروفاً في حينها من حركة الأجسام على الأرض، إلى حركات الكواكب والأجرام السماوية، إلى الكهرباء والمغناطيسية و …الخ. بل قد تفاجأ إذا علمت أنه حتى النظرية النسبية لأينشتاين

بشقيها (النسبية الخاصة والنسبية العامة)، هي نظرية كلاسيكية تماماً.

فهل نستطيع أن نفسر تجربة الشقين وفق قوانين حتمية؟ لنرَ.

إن أول درس قاسٍ تعطينا إياه تجربة الشقين، هو أنه علينا التخلي عن أي فكرة لمسار كلاسيكي محدد تماماً للإلكترون، إذ أنه لو كان الأمر كذلك، لتصرف الإلكترون تماماً كرصاصة نطلقها نحو الحاجز، ولكان قد مر من أحد الشقين أو الآخر، وبالتالي لظهر على الشاشة نمط يشبه النمط الذي نحصل عليه بإطلاق الرصاصات، وهو مختلف كل الاختلاف عن نمط التداخل، وهذا يخالف الواقع.

في الحقيقة، إن الأمر لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه لواقع أغرب بكثير…

لنتخيل معاً أن الإلكترون فعلاً يخضع لقانون حتمي لا نعلمه. عندها من حيث المبدأ، فهذا القانون سيفرض على الإلكترون شكل مسار محدد تماماً، نستطيع استنتاجه فيما لو عرفنا هذا القانون. ولكن كما رأينا، فإن وجود مسار محدد تماماً للإلكترون بالطريقة الكلاسيكية يتعارض مع ظهور نمط التداخل، وهو ما يخالف الواقع كما رأينا!

إن هذا يمثل إطلاق رصاصة الرحمة على مفهوم الحتمية ككل، ويبدو أنه علينا أن نتعايش مع حقيقة أن الإلكترون لا يتصرف بشكل حتمي!

هل يعني ذلك أننا لا نستطيع التنبؤ بأي شيء حول سلوك الإلكترون إذاً؟ لحسن الحظ، لا. فلنتذكر أنه عندما ظهر نمط تداخل لدى إطلاق الإلكترونات فرادى، فقد كان سببه أن الإلكترونات كانت تسقط بكثافة عالية في بعض المناطق، وبكثافة منخفضة في مناطق أخرى كما يبين الشكل:

ميكانيكا الكم

نمط التداخل في تجربة الشق المزدوج

والمناطق التي تحوي كثافة عالية لمواقع سقوط الإلكترونات، تعني أن احتمال أن يسقط إلكترون فيها هو احتمال عالٍ نسبياً، والأمر المعاكس هو الصحيح من أجل المناطق ذات الكثافة المنخفضة. بالتالي، فحتى وإن كنا لا نستطيع التنبؤ أين سيسقط الإلكترون الوحيد على الشاشة، إلا أننا نستطيع تحديد احتمال سقوطه في مناطق مختلفة منها. وبالتالي فعلينا أن نصوغ القوانين التي تحكم سلوك الإلكترون بشكل احتمالي بحت، وهذا يمثل ابتعاداً صارخاً للغاية عن روح الفيزياء الكلاسيكية!


التعمق في فهم نمط التداخل

بما أننا قررنا أن نصوغ قوانيننا الآن بشكل احتمالي، فعلينا فهم نمط التداخل الذي ظهر معنا والذي سنستخدمه كدليل لنا في صياغة هذه القوانين.

لنفكر الآن في كيفية ظهور نمط تداخل في الأمواج العادية، كالأمواج المنتشرة على سطح الماء والمبينة بالشكل التالي:

ميكانيكا الكم

نمط التداخل في تجربة الشق المزدوج

كما ذكرنا في المقالات السابقة، فإن ما نقيسه هنا ويظهر ممثلاً على الشاشة هو طاقة الموجة، والتي يمكن قياسها بسهولة من خلال اهتزاز كرة خفيفة موضوعة على سطح الماء. فكيف تكون طاقة الموجة بهذا الشكل؟ إن التفسير في غاية البساطة!

إن الموجة في هذه الحالة هي عبارة عن اهتزاز لسطح الماء. لنفرض أننا نقيس الارتفاع بالنسبة إلى سطح الماء. سنفرض أن النقاط التي ارتفاعها صفر (معدوم) هي النقاط التي على سوية سطح الماء عندما كان مستقراً وقبل أن يبدأ بالاهتزاز. وسنعطي النقاط الأعلى من سطح الماء ارتفاعاً موجباً (مثلاً لو كانت النقطة فوق سطح الماء بـ 3 سم سنقول أن ارتفاعها هو 3 سم) أما النقاط الأخفض من سطح الماء فسنعطيها ارتفاعاً سالباً (فلو كانت أخفض من سطح الماء بـ 3 سم مثلاً سنقول أن ارتفاعها هو -3 سم).

والآن، عندما تعبر الموجة من الشقين، فإن كلاً منهما سيتصرف كمنبع لموجة جديدة كما في الشكل أعلاه. وعندما ننظر لنقطة من سطح الماء قرب الشاشة، فسيصلها الاهتزاز من كلا المنبعين (الشقين). فلو وصلتها قمتان للموجات معاً، فإن ارتفاعها فوق سطح الماء سيكبر (مثلاً لو كانت قمة كل موجة على ارتفاع 3 سم، لوصل ارتفاع النقطة فوق سطح الماء عندما تصلها قمتان معاً إلى 6 سم ويكون ارتفاعها في هذه الحالة موجباً)، في حين أنه لو وصل للنقطة قعران لموجتين في نفس اللحظة، فستنخفض تحت سطح الماء بشكل كبير (مثلاً لو خفضتها أول موجة بمقدار 3 سم والثانية خفضتها أيضاً بمقدار 3 سم فستصبح تحت مستوى سطح الماء الأساسي بـ 6 سم ونقول أن ارتفاعها هنا هو -6 سم لأنها تحت مستوى سطح الماء)، ونقول في الحالتين السابقتين أننا حصلنا على تداخل بنّاء. أما لو وصلت للنقطة قمة موجة من المنبع الأول مع قعر موجة من الثاني، فلن تهتز أبداً (لأنه في مثالنا فالموجة الأولى تحاول رفعها بمقدار 3 سم في حين أن الموجة الثانية تحاول خفضها بمقدار 3 سم وبالتالي ستلغي الموجتان بعضهما وتبقى النقطة عند سطح الماء وارتفاعها عنه بالتالي معدوم) ونقول أننا حصلنا في هذه الحالة على تداخل هدام.

ولكن هل لذلك علاقة بطاقة الموجة؟ في الواقع، نعم. فطاقة الموجة تتعلق بمربع ارتفاعها (أحاول قدر الإمكان الابتعاد عن المصطلحات التقنية فاعذروني على التبسيط المفرط)، ومعنى ذلك أنها تتعلق بارتفاع الموجة مضروباً بنفسه. لذلك سنجد أن طاقة الموجة تكون عظمى في كلا حالتي التداخل البناء المذكورتين أعلاه، في حين أنها ستكون صغرى في حالة التداخل الهدام. ولأن قمم الأمواج وقعورها ستتداخل وفق ما شرحناه أعلاه في نقاط عديدة على سطح الماء، فسيظهر نمط التداخل الذي نشاهده في الصورة!


أمواج الاحتمال 

ولكن، كيف يمكن لنا الاستفادة مما سبق لتفسير تجربة الشق المزدوج؟ إن ما يلعب دور طاقة الموجة في مثال الماء، هو احتمال أن يسقط الإلكترون في مكان معين على الشاشة. لذلك يمكننا أن نفسر ما نرى إذا افترضنا أن ما يصف سلوك الإلكترون هو موجة، يكون مربع سعتها (السعة هي مصطلح يقابل الارتفاع في حالة أمواج الماء) معبراً عن احتمال أن نرصد الإلكترون في نقطة ما من الشاشة، وهذه الموجة هي ما يتداخل مع نفسه ليعطينا النمط الذي نشاهده في تجربة الشق المزدوج!

إن هذا لأمر رائع للغاية، فهو يفسر لنا ظهور نمط التداخل رغم إطلاقنا لإلكترونات فردية في تجربة الشقين. ومع ذلك، فقد رأينا أنه بقي لدينا عقبة كبيرة، وهذه العقبة هي تفسير اختفاء نمط التداخل لدى محاولتنا قياس من أي شق عبر الإلكترون بالضبط.
في الواقع، إن أبسط تفسير يمكن أن نضعه لذلك هو أن نضيف قاعدة جديدةً تقول بأننا قبل أن نقيس الإلكترون، فهو يمثل بموجة تعبر عن مزيج من جميع النتائج التي يمكن لنا الحصول عليها بعد القياس (في هذه الحالة العبور من الشق الأول أو من الشق الثاني) وهي تعطي نمط تداخل، إلا أنه بمجرد محاولتنا لإجراء قياس على الإلكترون، فسنجد فقط إحدى الحالات الممكنة بعد القياس وليس مزيجاً منها جميعاً (هنا مثلاً سنجد أن الإلكترون قد مر من شق محدد) ولذلك يختفي نمط التداخل.
قد تقول لنفسك، أن هذا مصطنع للغاية وسخيف، إلا أنه صدق أو لا تصدق، فهذه هي القاعدة المعتمدة في ميكانيك الكم للحصول على التنبؤات التجريبية المذهلة له والتي هي أساس التكنولوجيا التي نستخدمها في حياتنا اليوم!

خاتمة

لقد قمنا الآن ببناء نموذج نستطيع استخدامه للحسابات واستخلاص النتائج التجريبية باستخدام القواعد الغريبة المذكورة في الأعلى، وقد نجح هذا النموذج بالفعل نجاحاً مذهلاً للغاية بتفسير المشاهدات التجريبية. إلا أنه يطرح على الصعيد المفاهيمي العديد من المشاكل الكبيرة:

أولاً، ما هي طبيعة هذه الموجة التي تمثل سلوك الإلكترون؟ هل لها وجود فيزيائي حقيقي أم أنها مجرد أداة تساعدنا على القيام بالحسابات؟ وهنا لا بد لي من التنويه لنقطة مهمة لمن يعرف من القراء القليل من الرياضيات، فإذا ما توخيت الدقة، فالاحتمال لا يحسب من مربع سعة هذه الموجة، بل من مربع طويلة هذه السعة، لأن سعة الموجة كما يتبين بالتمحيص ليست مجرد عدد موجب أو سالب فقط، بل يمكن أن تكون أيضاً عدداً عقدياً. فما الذي تمثله هذه الموجة بالضبط؟

ثانياً، إن الحالة قبل القياس هي مزيج من الحالات الممكنة بعد القياس كما رأينا، وهي مختلفة جذرياً عنها (فقد رأينا أن الحالة قبل القياس في تجربة الشق المزدوج قد أعطت نمط تداخل على عكس الحالة بعد القياس، وهي حالة عبور الإلكترون من شق محدد تماماً). فما هي طبيعة هذه الحالة قبل القياس؟

ثالثاً، ما الذي نعنيه أصلاً بكلمة قياس؟ ومن الذي يقوم بالقياس؟ وما الذي يفعله جهاز القياس بالضبط للجملة؟ ولنتخيل معاً الموقف التالي: لنفرض أننا أتينا بجهاز قياس لقياس من أي شق مر الإلكترون. وهنا يحق لنا أن نسأل السؤال التالي: إن الجملة المركبة المكونة من جهاز القياس مع الإلكترون، يمكن لها أن تكون في إحدى حالتين: “إلكترون مر من الشق الأول وجهاز القياس قد قاسه مر من الشق الأول”، أو “إلكترون مر من الشق الثاني وجهاز قياس قد قاسه مر من الشق الثاني”.

إن الجملة المركبة إذاً يمكن أن تكون في إحدى حالتين باحتمالات محددة، وبالتالي وفق القواعد التي ذكرناها في الأعلى، يجب أن تمثل بموجة احتمال هي مزيج من الحالتين الممكنتين للجملة. وبالتالي ستحتاج الجملة المركبة من يقيسها كي تأخذ حالة محددة من بينهما! وحتى في هذه الحالة، فالجملة المركبة الجديدة من (الإلكترون/جهاز قياس من أي شق مر)، مع (جهاز قياس جملة الإلكترون/ جهاز قياس من أي شق مر) ستحتاج بنفس الطريقة لمن يقيسها لتكون في حالة محددة، وقس على ذلك. فما الذي يحصل بالضبط؟

إن المسائل المطروحة في (ثانياً) و(ثالثاً) تعبّر عما يدعى في ميكانيك الكم بمشكلة القياس، وهي من أشد مشاكل الفيزياء تأريقاً بالفعل!

ذو صلة

هل يعقل أن توصلنا هذه النظرية (ميكانيك الكم) والتي تبنى عليها تكنولوجيا هائلة من الليزر للإلكترونيات الحديثة لـ …الخ إلى هذه التناقضات والعجائب؟ وهل هناك من تفسير لما يحصل؟

في الواقع، هنالك عدة تفسيرات مطروحة لما يحدث، ولم يحسم بعد، أي منها هو الصحيح، وكل منها يعطي صورة عن العالم أغرب من الخيال. وستكون هذه التفسيرات هي المجال الذي سنغوص فيه في هذه السلسلة في المرات القادمة، فابقوا معنا لتدركوا بأن ميكانيك الكم يزودنا بصورة عن الواقع أغرب من الخيال، وهو عبارة عن نظرية لا يدرك معظم الناس الذين يستخدمون حواسيبهم وهواتفهم المحمولة كل يوم، أن عمل هذه الأجهزة هو إثبات صارخ على صحتها!

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة