اديث بياف .. والحياة القاسية الوردية!
7 د
كذبت علينا اديث بياف مرتين، مرة عندما أخبرتنا بأن الحياة وردية، والثانية عندما حاولت إقناعنا وإقناع نفسها أنها حقاً لا تندم على أي شيء.
في الواقع الحياة لم تكن وردية جداً مع إديث جيوفانا غاسيون، الفتاة الصغيرة التي هجرتها أمها المغنية في سبيل تحقيق شهرتها، هذا الهدف الذي لم يتحقق بأي حال من الأحوال، كل ما حدث أنها تحولت إلى سيدة بائسة تستجدي الناس من أجل الطعام، بعدما حولت ابنتها إلى أتعس طفلة في العالم.
كما أنها كذبت، أو لنقل، كانت تحاول خداع نفسها عندما غنت آخر أغنياتها، “Non, je ne regrette rien” أو “لا..لا أندم على شيء”، الحقيقة أن الندم والقهر هما ما قتلا العصفورة الصغيرة في سن السابعة والأربعين، بعد سلسلة من الأحداث المآسوية، لم تنجح بعض لحظات السعادة والنجاح التي تخللتها في تبديدها ولو قليلاً..
كنت أنوي حقاً التحدث عن الفيلم الذي يروي سيرة حياة الأسطورة اديث بياف المغنية الفرنسية الأشهر التي تعامل معاملة أم كلثوم في مصر، أو فيروز في لبنان إلى اليوم، والحديث عن الآداء المذهل للممثلة الفرنسية ماريون كوتيار التي جسدتها، لكنه سحرها الغريب، الذي يسيطر على كل شيء، ماريون نفسها بدت وكأنها تلاشت في هالة بياف، حتى أنني نسيت لوهلة أن هذه ممثلة أخرى وليست أديث بنفسها.
بالطبع هذا الآداء المدهش والعبقري من كوتيار، والذي أهلها للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عام 2008 باستحقاق وإجماع، هو السبب في هذا الشعور بنسيان الممثلة الجميلة تماماً، وكأننا نشاهد فيلما تسجيلياً عن اديث بياف ورحلتها مع البؤس والألم منذ وجدها والدها العائد من الحرب ملقاة على سرير حقير في بيت جدتها لأمها تعاني البرد والجوع والإهمال، وحتى عندما أودعها بعد ذلك منزل والدته هو، الذي كان في الحقيقة بيتاً لبائعات الهوى، والذي فقدت فيه بصرها لفترة طويلة جداً.
وعلى الرغم من ذلك، كان هذا هو المكان الوحيد التي حظيت فيه فعلاً برعاية وتدليل النساء اليائسات مثلها، الذين استعادوا جزءاً من برائتهم في اللهو والغناء مع الطفلة الصغيرة زرقاء العينين.
تجربة فقدان البصر كانت هامة جداً في حياة بياف، أعتقد أنه كان سبباً في زيادة نمو حواسها الأخرى، يبدو أنها كانت ترى فعلا بقلبها، الأمر الذي صاحبها بعد ذلك طيلة حياتها، وجعلها تملك كل هذا القدر من الإحساس والعاطفة.
لكن استقرارها مع جدتها لم يدم، عندما عاد والدها من الحرب، وصحبها معه في جولاته كفنان شارع، على الرغم من القسوة التي صوّر بها الفيلم والدها، إلا أنها كانت قسوة التعساء، في الواقع، أحبت إديث بياف والدها بشدة، والدها الذي لم ينسَ نظرتها إلى دمية أعجبتها في واجهة عرض محل ليشتريها لها بعد ذلك، هذه هي اللحظات التي تتذكرها السيدة على فراش الإحتضار بعد عشرات السنوات، وليس لحظات القسوة والبؤس والفقر.
كانت جولاتها مع والدها أيضاً سبباً في اكتشافها لقدر وجمال صوتها، ما حدث بعد ذلك معروفاً، عندما اكتشفها والدها الروحي لويس لوبليه وقدمها إلى عالم الغناء والشهرة، وبعد مقتله، كان للموسيقار ريموند أسّو الفضل في إعادة تقديمها لعالم آخر أكثر رقياً، وهو المسرح، لتقدم معه أجمل أغانيها.
لكن حتى هذه الفترة الناجحة من حياتها، لم تكن خالية من المآسي، مثل اتهامها بقتل لويس لوبليه رغم حبها الجارف له، أو معاملة ريموند أسو القاسية لها.
الفقدان.. هو العنوان الذي يمكن أن نطلقه على حياة إديث بياف، فقد كل شيء، فقد الأم، الجدة، السيدة تيتين التي اعتنت بها في بيت جدتها، فقد بصرها، فقد أبيها الروحي، فقد طفلتها، وبالتأكيد فقد كل رجل أحبته يوماً.. لذا عندما نسمع هذه الأغنية Ne me quitte pas أو أرجوك لا تتركني، سنفهم لماذا تبكي هكذا في نهايتها.
من بين أغانيها التي قد تبدو مألوفة للمستمع العربي، تأتي أغنية Les Feuilles Mortes ، أوراق الخريف أو “الأوراق الميتة”، والتي غنتها السيدة فيروز باسم “بتذكر بالخريف” ظهرت بالفرنسية لأول مرة عام 1945 وهي من كلمات الشاعر جاك بريفير وألحان الموسيقار جوزيف كوزما ، ثم غناها إيف مونتان في فلمه الشهير “أبواب الليل” كما غناها الكثير من أساطرة الغناء مثل فرانك سيناترا وبربرا سترايسند، وعزفها على البيانو الأسطورة روجر ويليامز.
منذ أن رحلتَ
طالت الأيام
وقريباً سأنصت
لأغنيات الشتاء القديمة
لكنني أفتقدك أكثر من كل وقت يا حبيبي
حين تبدأُ أوراق الخريف بالسقوط..
وبالرغم من أنها لم تعرف الفشل بعد ذلك، بل توجت فوراً ملكة على قلوب الملايين من العشاق حول العالم، لكنها لم تكن سعيدة، امرأة مثل إديث ترى بقلبها فقط، هي امرأة خلقت للحب فقط، لكن يبدو أن الحب لم يُخلق لها رغم ذلك.
عندما أحبت إديث الملاكم مارسيل سيردان رغم أنه كان متزوجاً ولديه أطفال، لم تستطع السير وراء العقل والمنطق بأن مصير حبهما بالتأكيد هو الفراق، بل اندفعت ورائه بكل مشاعرها، حبها لمارسيل كان أقرب لحب طفولي عارم وعميق، حب منحها القطعة الناقصة في أدائها على المسرح، وهي العاطفة والشعور بكل كلمة، وله غنت أغنيتها الأشهر، الحياة وردية، التي كتبت كلماتها بنفسها.
عندما يأخذني بين ذراعيه..
ويهمس في أذني ببعض الكلمات..
أري الحياة وردية..
عندما يقول لي كلمات الحب..
كلمات الحب العادية جداً..
تفعل في نفسي شيئاً..
أنا له، وهو لي.. طيلة الحياة..
هكذا أخبرني..هكذا أقسم لي.. حتى نهاية الحياة..
لكن البؤس الذي كتب على إديث منذ الطفولة استمر ليسرق منها حب حياتها كما كانت تسميه، لم يتم الفراق بقرار أحد الطرفين، لكنه كان قراراً قدرياً دون مقدمات، فكان طبيعياً أن تنهار تماماً بعد وفاته المفاجئة في تحطم طائرته وهو في طريقه لزيارتها في نيويورك.
انغمست إديث بعد ذلك في إدمان الكحول والمورفين، وبعدها غنت أغنيتها الحزينة Hymne à l’amour أو نشيد الحب، والتي كتبتها أيضاً بنفسها، وأنهتها بجملة:Dieu réunit ceux qui s’aiment، عسى أن يجمع الله الأحبة معاً من جديد.
السماء الزرقاء من فوقنا قد تهوي..
الأرض أيضاً أسفل أقدامنا قد تنهار..
لا أهتم إن كنت تحبني أم لا..
مادام حبي لك يفعم صباحاتي..
مادمت أرتعش هكذا بين يديك..
لا أهتم بكل مشاكلي..
ياحبي.. طالما أملك حبك..
كان إحساس إديث بالذنب أكبر حتى من الإحساس بالفقد، هي من طلبت من مارسيل الحضور وهي إذاً المتسببة في قتله، في وقتها كانت تسترجع أيضاً وفاة طفلتها الوحيدة التي حملت نفس الاسم، مارسيل، بعد إهمالها لها في سبيل الغناء وهي بعمر السنتين. الأمر الذي ندمت عليه حتى لحظات احتضارها الأخيرة.
هذا الإكتئاب، والأحزان التي تتوالى عليها كانت في الحقيقة السبب الحقيقي لموتها المبكر، في سن السابعة والأربعين، إلا أنها بدت حقاً كما لو كانت في السبعينات من العمر. الشعور بالذنب سحقها فعلاً، لكننا دائماً ما ننكر هزيمتنا، ونحاول بيأس البدء من جديد.
وبالنسبة لامرأة عاشقة مثل إديث، كان عليها التظاهر بالإنتصار حتى اللحظة الأخيرة، كما تفعل كل امرأة محطمة في الواقع، الإنكسار يستحضر في المرأة نوعاً ما من أنواع القوة، لذا أكملت إديث حياتها وأحبت وتزوجت مرتين، والأهم ظلت تغني للحب وتدعو الجميع إليه.
حتى أيامها الأخيرة، التي وقفت فيها مزهوة على المسرح، تغني أغنيتها الأخيرة من تأليف الشاعر العظيم شارل دومون، الأغنية التي جعلتها تغير رأيها بعد الإعتذار عن حفلها المنتظر على مسرح أوليمبيا، لتمنحنا هذه القطعة الآسرة من العاطفة الخالصة النقية. ولتحاول إثبات قوتها وانتصاراتها لنفسها وللعالم، معلنة عدم ندمها على أي شيء.
لا .. لا شيءَ قَطُّ !
لا .. لستُ نادمةً على شيء!
لا الخيرُ الذي قدموه لي
ولا الإساءات ..
فكلها .. صارت لديَّ سواء !
لا .. لا شيءَ قَطّ
لا .. لست آسفة على شيء
قد دُفِعَ الثمن ، ومضى، وصار طيَّ النسيان
وأنا .. سعيدةٌ بماضيَّ..
كان هذا هو دور حياة ماريون كوتيار، التي لا ينكر أحد موهبتها المذهلة في التمثيل، النجمة الفرنسية تفوقت على نفسها في كل شيء، بداية من النظرات الحالمة الساذجة في بدايات أديث بياف، انتهاءً بنبرة صوتها بعد التقدم في العمر، في انحناءة جسمها وهي تمشي مشية إديث بياف الشهيرة التي شبهها الكثيرون بتحليق العصفورة.
لم يكن المكياج فقط ذو الفضل في تحويل ماريون إلى امرأة أخرى، لكنه كان الذوبان في هذه الشخصية وسحرها، لتقدم أفضل فيلم سيرة ذاتية صنع حتى اليوم برأيي ورأي العديد من النقاد.
تقول ماريون، “شاهدت مئات الشرائط المصورة لأديث بياف، راقبت حركاتها ونبرة صوتها، متى تتنفس ومتى تحبس أنفاسها وهي تغني، حركات يديها طريقتها في الكلام، حتى أنني تلقيت دروساً في الغناء لضبط إيقاعي مع إيقاعها.
لم أعمد إلى تقليد نبرة صوتها وطريقة مشيتها، لكن ما أن نطق المخرج أوليفييه داهان بكلمة أكشن، حتى وجدتها تتلبسني، تركت لها نفسي تماماً، بطريقة أقرب للصوفية، سمحت لها أن تحتل مسامي، لتشعر أنها في بيتها دون أن أختفي أنا أيضاً”.
حياة اديث بياف ..
العصفورة الصغيرة، La Môme، أسطورة فرنسا، تجعلنا مقتنعين بأن الإبداع يولد دائماً من رحم المعاناة، وبأن الفنانين ربما خلقوا كذلك بسبب أرواحهم الحساسة الشفافة قصيرة العمر، وبأنهم على الرغم من كل شيء، دائماً ما يملكون هذه النظرة الوردية للحياة، رغم أنها غالباً لا تكون كذلك فعلاً.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.