غذاء للقبطي: ورقة وقلم يا ست الكل – كتاب يعطي تشريحًا مجتمعيًا للأقباط من المطبخ!
شكلت التساؤلات حول الأكل نواة لبعض الكتابات عنه بالطبع، فالكتابة عن الطعام ليست شيئًا جديدًا، فنحن نرى في التراث العربي كتابات كثيرة احتفت بالطعام وأصنافه وطريقة إعداده، مثل الفصول التي وردت في الكتاب الموسوعي “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي، أو تلك الأبواب التي صنفها ابن قتيبة في مجلده “عيون الأخبار“. حتى صدر مؤخرًا كتاب “غذاء للقبطي” للكاتب “شارل عقل” ليكون إضافة ثرية ومغرية، وليخترق به كاتبه السياسة والاجتماع من باب الطعام.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كان لصور الأكل والمطاعم نصيب كبير من الانتشار الهائل والضخم للصور والمنشورات التي يحكي فيها أصحابها عما يفضلونه، وعن الأشياء التي تريح نفسيتهم. تتكرر دومًا المنشورات التي تتغزل في أصناف الأكل، أو طرق إعداده، حتى لتتشابه المنشورات في النهاية كأنها صادرة عن نفس الشخص. هذا التشابه بين منشورات الناس برغم اختلافاتهم الملحوظة، ليس راجعًا إلى تشابه الذائقة بالطبع، وإنما إلى تشابه الاطعمة. في تلك المنشورات يظهر الطعام بشتى أصنافه ما هو إلا مهرب نفسي، أو مفرغ للمشاعر الفياضة التي لم يجد الشخص سبيلًا إلى تفريغها في مكان آخر.
فبرغم أن جزءًا من ذلك الارتباط العاطفي بالطعام هو شعور حقيقي في ذاته، إلا أنه للأسف لا يحدث بشكل واعٍ إطلاقًا، إلا في لحظات نادرة. فعادة الأكل هي إحدى أكبر العادات الاجتماعية التي يطابق في ممارستها جميع البشر، وتكرارها لأكثر من مرة على مدار اليوم، إلا أن ذلك التكرار يحدث بشكل روتيني، وسط تسارع الحياة وضغوطات العمل والارتباطات اليومية، حتى أنه قلّ من يتوقف أمام ما يأكله ليتسائل عن حقيقة فعل الأكل، أو مشاعره وذكرياته التي تربطه بتلك الأكلة بالذات، أو حتى عن قيمتها وسط الحياة.
غذاء للقبطي.. المقادير المطلوبة؟
صدر كتاب “غذاء للقبطي” في أواخر عام 2017 عن دار الكتب خان، في سلسة “بلا ضفاف” وهي سلسة تعنى بنشر الكتب النثرية الغير واقعة تحت تصنيفات الأدب المحددة كالرواية والقصة وغيره. يعد الكتاب هو الأول لمؤلفه الشاب شارل عقل، والذي يعرف نفسه على الغلاف بسطر واحد: سكندري، يكره الكتابة أقل مما يكره باقي المهن، ويهوى الجلوس.
يحتوي كتاب “غذاء للقبطي” على 10 فصول شديدة التنوع فيما بينها، بعضها لا يختص بالطعام القبطي فقط، فمنها فصول عن الفول، المخبوزات، المأكولات البحرية. وبعض الفصول هو من صميم الطعام القبطي، كالمأكولات الخلافية (لحم الخنزير)، أو منتجات الأديرة، وغيرها.
ينتقل “شارل عقل” خلال لفصول بسلاسة، لكن فصول الكتاب لا يجمع بينها سواء الإطار العام للكتاب. ففي البداية تطغى بنوع ما لغة مقالية، تخف حدتها قليلًا مع الاندماج في الفصول حتى النهاية، لكن المشترك العام في كل الفصول هي حكايات شارل اللذيذة جدًا، والذاتية جدًا.
نرشح لك قراءة: طبيخ الوحدة: قصة امرأة وحيدة دخلت المطبخ، وخرجت بأعذب الحكايات!
من رحابة الخاص إلى ضيق العام
تبدأ معظم الفصول تقريبًا بحكايات شديدة الذاتية من طفولة الكاتب وحياته عمومًا لينتقل منها إلى حكايات أوسع عن مجتمعه القبطي أو المجتمع المصري عمومًا، أو يعرج بها على وصفات إعداد الأطباق المختلفة، ليشكل ثنائيات متناقضة بشكل واضح جدًا ما بين الخاص والعام.
الخاص والعام في كتاب غذاء للقبطي يشتد ظهورهما في خطين اثنين هما خصوصية الكاتب نفسه والعام المحيط به من أصدقاء وأقارب ومعارف وزملاء. وخصوصية المجتمع القبطي مع المجتمع المصري ذي الأغلبية المسلمة.
في حكايات الكاتب الذاتية يسرد علينا ذكرياته مع أسرته والمدرسة، ثم ينتقل إلى مراهقته في الثانوية وبدء تفكيره النقدي لأفكار الدين والمجتمع حوله، ثم مرحلة الشباب والعمل وما بعدها. في قلب تلك الحكايات يأتي ذكر الأطعمة المختلفة التي شكلت وعي الكاتب -ووعي الكثيرين منا في طفولتنا- مع طرق تحضيرها وإعدادها، وبعض الحركات السرية والإضافات الخاصة بالكاتب نفسه أو أحد والديه أو جده أو جدته.
ثم ينتقل برشاقة من حكاياته الخاصة جدًا، إلى حكايات المجتمع القبطي شديد الخصوصية أيضًا، ليشرّح بوضوح انغلاق ذلك المجتمع على ذاته، في كثير من الطقوس والعادات، أهمها عادات الصيام التي تستمر لمدد كثيرة على مدار العام، مع عادات تناول لحم الخنزير أو الخمور المتنوعة، سواء كوجبة عادية، أو في ليالي الاحتفال والأعياد.
تشكل تلك الحكايات المتنوعة مع الوصفات الجديدة والمغرية جدًا، مزيجًا مشوقًا وعمودًا فقريًا للكتاب، يجذب القارئ ويجعله متابعًا بلهفة للأفكار الأساسية التي يطرحها الكاتب من تفنيد للدين والسياسة والمجتمع وغيره.
سياسة ودين واجتماع يا ست الكل
من اللحظة الأولى في الكتاب يمرر “شارل عقل” أفكاره المتعلقة بالطعام بلا مواربة، وعلى امتداد الفصول كلها. يعطي تشريحًا مجتمعيًا للأقباط داخل المجتمع المصري في فصول “المخبوزات” و “الصيامي من منتجات السوق” و”مأكولات رمضانية للأقباط”، حيث يطرح تلك المشكلة التي يتعرض لها الأقباط في صيامهم وفي صيام المسلمين، من خلال توافر أطعمة معينة وعدم توافرها وتأثر السوق بتوجهات مستهلكين معينين.
ثم يقتحم أفكار التدين القبطي خصوصًا، والتدين المصري عمومًا، من خلال فصول “مأكولات بحرية” و “منتجات الأديرة” و”مأكولات خلافية”، يبدأ التشابك مع فكرة التدين من خلال رمزيات الطعام في الديانة المسيحية، ثم الكلام عن الأديرة وشكل الرهبنة، ثم الحديث الصدامي ولكن بطريقة ذكية جدًا ومرحة عن الخمور ولحوم الخنزير.
وكما يقول الكاتب “شارل عقل” (بتصرف):
برأيي أن الذين يقدرون الطعام الجيد عليهم أن ينخرطوا في عمليات الإنتاج والتصنيع بقدر ما يستطيعون، على الأقل ولو لمرة واحدة، لأنه حقيقةً، كل علاقة الإنسان بما يتذوقه تتغير تمامًا ما أن يختبر مراحل إنتاجه. بذلك تتعمق علاقتك بما تأكله، وتشذب حواسك لاستقصاء تفاصيل أدق حتى داخل المكون الواحد.
ويختم “شارل عقل” وجبته الدسمة والخفيفة على القلب في آن واحد ضمن كتاب “غذاء القبطي”، بفصل يمتلئ بالنوستالجيا العائلية والانتقادات السياسية تحت عنوان “مأكولات العيد”، يحكي فيه عن طقوس العيد القبطي لدى العائلات في ليلة العيد وصباحه الباكر، والدلالات السياسية لقداس العيد الذي يعكس مزاج الكنيسة وموقفها السياسي لما يدور في البلد.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.