“التكنوقراط” أو حكم الكفاءات بلا انتخابات … أن تعلو كلمة العلم فوق الديمقراطية
في سياق تطور المجتمعات، برزت الحاجة إلى إحداث حكومة تمثلها وتتولى شؤون إدارة مصالحها العامة. وكأحد أشكال ممارسة السلطة، تعد الحكومة من أقدم المؤسسات السياسية التي عرفتها البشرية، إذ تعود أصولها إلى الحضارة اليونانية والرومانية على حد سواء، وعلى مر العصور لم تتغير وظائف الحكومة، بل برزت أشكال عديدة منها.
ومن مهام الحكومة حفظ النظام العام للمجتمع الذي تمثله، كما يقع على عاتقها الدفاع ضد أي عدوان خارجي، فضلًا عن إعادة توزيع الدخل والموارد بين الأفراد والمؤسسات التي تتولى خدمة الصالح العام للمواطنين. هذا إلى جانب توفير البضائع التي يحتاجها أفراد المجتمع، من خلال إنتاجها داخليًّا أو استيرادها وتصدير بضائع أخرى يتوفر اكتفاء الذاتي منها. وعلى الحكومة كذلك التدخل باتخاذ الإجراءات المناسبة حال حدوث كارثة بيئية أو تفشي وباء أو تلوث ناتج عن المصانع مثلًا، من شأنه أن يتسبب في أضرار بشرية وبيئية.
أطياف حزبية تتولى شؤون الدولة
الحكومة هي سلطة يسند لها البرلمان تنفيذ القوانين وإدارة مرافق الدولة. وعلى الرغم من ممارسة نفس المهام تقريبًا، يمكن التمييز بين الحكومات الجمهورية التي ينتخبها المواطنون، والحكومات الملكية التي يتولى الملك تعينها، ولو أنها منتخبة، إلا أن رئيس الدولة (أي الملك) هو من له الحق في إبداء الموافقة الحاسمة حول تعيين أعضاء الحكومة.
وهناك حكومة الأغلبية، التي يتولى فيها الحزب الذي فاز بأعلى عدد من الأصوات، رئاسة الحكومة ويتولى مهمة التنسيق بين الأحزاب الأخرى لاقتراح الوزراء. ويمكن أن نجد هذا النوع في الدول ذات النظام الجمهوري والنظام الملكي الدستوري، على حد سواء.
إن نظام الملكية الدستورية من شأنه أن يفرز حكومة ائتلافية، كما هو الحال في النظام الجمهوري البرلماني، عندما لا يتمكن الحزب المتصدر للانتخابات من الحصول على أغلبية المقاعد بالبرلمان، حينها يتولى هذا الحزب قيادة المشاورات بين أحزاب أخرى قصد تشكيل حكومة تتألف من أطياف حزبية وإيديولوجية مختلفة، وقد يشهد هذا النوع من الحكومات انشقاقًا داخليًا بسبب ولاء الوزراء لأحزابهم وقياداتهم الذي من شأنه أن يحول دون انصهار هؤلاء الوزراء في الائتلاف الحكومي.
العسكر أو الأقلية أو الكهنة
عند حدوث أزمة سواء كانت ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو أمني، من شأنها أن تصيب مؤسسات البلاد بالشلل وتؤدي إلى صراع بين الأطياف السياسية أو تحدث حربًا أهلية وغير ذلك… أمام هذا الوضع المتأزم، تتفق الأحزاب السياسية على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وفي حالة ما إذا استدعى الأمر، تتشكل هذه الحكومة بوساطة دولية.
وفي البلاد التي تشهد انقلابًا عسكريًا، يقوم الجيش بتشكيل حكومة يكون رئيسها وكافة الوزراء فيها من المؤسسة العسكرية. وبعد انهيار نظام سياسي جراء ثورة شعبية، أو غزو خارجي أو انقلاب، يتم تشكيل حكومة انتقالية، إلى حين اكتمال بناء النظام السياسي الجديد. وتقوم دولة محتلة بتشكيل حكومة عميلة بالدولة التي تستعمرها. أما عندما يسحب البرلمان الثقة من الحكومة، أو حينما تجرى انتخابات في انتظار إعلان الحكومة الجديدة، يتم تعيين حكومة تصريف الأعمال.
ويطلق على الحكومة الأوليغارشية أو حكم الأقليات، عندما تكون السلطة السياسية بيد أقلية، على أساس العرق أو النسب أو المال أو قوة السلاح. وتتشكل الحكومة الثيوقراطية أو حكم الكهنة أو رجال الدين على أساس ديني، أي أن الحاكم هنا يستمد سلطته من قوى عليا كما يزعم، ويعتبر نفسه موجها بتعاليم مقدسة على أفراد المجتمع أن يمتثلوا لها.
التكنوقراط تستند إلى المنهج العلمي
تكتسي حكومة التكنوقراط ميزة فريدة، إذ تسمح لأهل العلم والخبراء والأكاديميين بحكم شؤون البلاد، دون خوض الانتخابات أو الانتماء لأحزاب سياسية. حيت يتم اختيارهم من طرف رئيس البلاد استنادًا على خبرتهم وكفاءتهم، ولهذا تسمى أيضًا بحكومة الكفاءات، حيث تتشكل من رجال مختصين في مجالات مختلفة من أطباء وخبراء اقتصاديين وأكاديميين وأدباء وأطباء وغيرهم.
التكنوقراط هو مصطلح قديم ذو أصل يوناني، ينقسم إلى كلمتين وهما: “تكنو” وتعني الفن، بينما “قراطوس” فتشير إلى الحكم، بالتالي فإن المعنى الكامل هو الحكم الفني. ويعود الفضل في إحياء هذا المصطلح إلى المهندس الأمريكي هنري سميث، عندما نشر مقالًا عام 1919، تحت عنوان “الطرق والوسائل لكسب الديمقراطية الصناعية”.
وبعيدًا عن المرجعية السياسية، وصراعات الأحزاب التي يبغي كل منها إقناع الرأي العام بكونه الأفضل مراعاة للمصالح العامة، يتخذ أعضاء حكومة التكنوقراط قراراتهم بناءً على المنهج العملي، على عكس رجال السياسة الذين لا إلمام لهم بشؤون البحث العلمي في الظواهر الاقتصادية والتقنية والاجتماعية.
الديمقراطية تفرز وزراء منعدمي الكفاءة
في خضم الأزمات الاقتصادية التي عصفت بلدان العالم، برزت حركات تصحيحية تدعو إلى إبعاد السياسيين عن الحكم وإحلال أهل الخبرة والكفاءة بدلا منهم، من أجل تجاوز الكساد والفقر والبطالة والتضخم الاقتصادي. فيما بعد سيحصل التكنوقراط على شرعية شعبية بعدما تحولت هذه الحركة التصحيحية إلى تيار سياسي في أمريكا، قبل الحرب العالمية الثانية، سمي بحركة التكنوقراطيين، التي تشكلت آنذاك من مهندسين ورجال الصناعة وخبراء الاقتصاد، حيث قاموا باستخلاص قوانين الحكم بناء على دراسة عميقة وشاملة حول الأوضاع الصناعية والفلاحية والتجارية والسوسيولوجية.
ويرى التكنوقراطيون أن الانتخابات الديمقراطية لا تفرز سوى أفراد تعوزهم الكفاءة والمعرفة والمهارة اللازمة لإدارة شؤون البلاد. وعندما تمر البلاد بأزمة ما، يواجه رجال السياسة الاختبار الأصعب، فعادة ما يتملصون من مسؤولياتهم ويتراشقون بالتهم فيما بينهم، مفتقدين للشجاعة في الاعتراف بعدم قدرتهم، وقد يجعلون الوضع أكثر تأزما باتخاذ قرارات ارتجالية، غير ممتلكين لأي تصور واضح حول خطة تجاوز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.