فن الوجود: إريش فروم وكيف نرغب أن نعيش؟
6 د
رغبة الحياة أمرٌ مشترك بين الناس، ولا تُلغى هذه الرغبة إلا عندما نرزح تحت وطأة الألم؛ أو عندما تجتاحنا مشاعر كالحب والكراهية… إلخ. هذا ما يستهل به إريش فروم كتابه فن الوجود كي يحدد التساؤلات المفتاحية في نظريته حول فن الوجود، ليصبح التساؤل الحقيقي هو: كيف نرغب أن نعيش؟ بدلاً من سؤالنا: ما هو الهدف من العيش؟
درع الحياة: بداية الحرب العالمية الثالثة
ورغم اختلاف الإجابات على هذا التساؤل، والتي قد تكون إما رغبة بالحب، بالمال، بالسلطة، بالأمان… أو غيرها، إلا أن هناك ما يشترك فيه الأغلبية ويتمثل برغبة الحصول على السعادة، تلك الرغبة التي تدفعنا للسعي وراء الأشياء التي نريد في محاولة منا لتشكيل الرضا الذاتي بعد تلبية احتياجاتنا، بعيداً عن التقييم الأخلاقي لطبيعة الحاجة، فقد تكون رغبة جنسية؛ أو معرفية… إلخ، شرط أن يعني ذلك عدم إيذاء الآخرين.
ورغم المحاولات المتعددة لتحديد رؤية واضحة حول إمكانية ضخ المعنى لحياتنا، تبقى القيود ماثلة أمامنا، تعرقل مسيرتنا في محاولة فهمنا للوجود، لوجودنا. فمع معرفة كل منا للقيود الخارجية التي تكبله، إلا إن هناك ثمة ضبابية حول معرفة القيود الداخلية التي تأسرنا متوهمين أننا أحرار.
وكي نتخلص من تلك القيود، لا بد لنا أن ندرك وجودها ونتعرّف عليها في سبيل تعلّم فن الوجود على حد تعبير فروم.
الحياة ليست حالة طوارئ.. إذا كنت تحرق نفسك لتحقيق أهدافك توقف!
العقبات والقيود التي تقف في وجه تعلّم فن الوجود
الكذبة الكبرى
التي تسود في كافة المجتمعات، كالقول في السياسة: النصر قريب. وعدم القدرة على التفريق بين الأصيل والمزيف في الأدب والفن، فإذا كان عنوان كتاب ما قد اشتهر نتيجة لدعاية تسويقية قوية؛ فإن الشخص العادي على استعداد لأن يصدق ما يدعيه صاحب هذا الكتاب، وكل هذا ينصّب في قطاع الكذبة الكبرى حول خلاص الإنسان وكينونته المثلى.
الانخراط في الحديث التافة
والتافه هو المكان العام، وهو موقف يهتم بظاهر الأمور وليس بجوهرها، كحديث الشخص المستمر عن نفسه مستبدلاً بديهية ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود” ببديهية أخرى تقول: “أنا أتكلم إذا أنا موجود” وهنا تكمن المشكلة، لأن الاعتماد على الكلام ينفي الفعل الذي يجعلنا نرى النفاق وراء قناع الصداقة والأذى وراء قناع الشكوى الدائم، والنرجسية وراء الشخصية الساحرة.
لا جهد ولا ألم
ترتبط هذه المسألة بفكرة التعلّم دون بذل أدنى جهد، مستخدمين مبدأً يقول: إن لم يكن ثمة ضرورة لبذل الجهد فهذا أفضل، كمحاسب يقوم بجمع رقمين بسيطين باستخدام الآلة الحاسبة، تخيلوا كم يؤثر هذا على مقدار تطور الإنسان، وكيف قد يجعلنا غير قادرين على فهم أن السعادة ليست في الحصول على اللاشيء فحسب وإنما تكمن في الطريق للحصول عليها، فالمعاناة هي بعض مما يمر به البشر، وهذا يخلق تجربة معاناة الفرد مع معاناة الجماعة.
مناهضة السلطوية
يضع الكثير من الناس نصب أعيونهم التخلص من كل ما هو سلطوي كرغبة لتحقيق الذات، ويتورطون نتيجة لذلك في قضايا لم تكن أساساً ضمن مخططاتهم، وربما تكون الحرية الجنسية التي طرحتها أوربا دليلاً على وقوع الإنسان في مصيدة حرية النزوة بدلاً من حرية الإرادة، والمقصود بهذا الكلام هو أن الحرية الجنسية تحولت لتصبح مجرد تلبية لحاجة غرائزية تجاه أي أثنى أو رجل، وليست بوصفها حرية تفسح المجال أمام الرغبة الحقيقة للتشكل والتلبية.
قد تكون العقبات السابقة ليست شاملة ولكنها مثلت لدى فيلسوفنا فروم أساساً وضرورة للبدء في تحديد الشروط الحقيقة التي يجب أن تدفع كل شخص منا ليحقق المعنى من وجوده، وليتعلم بحق هذا الفن.
شروط تعلّم فن الوجود
يبهرنا إريش فروم بقدرته الصادقة على تبيان ما نفكر به داخلنا ولا نعترف به للآخرين، وتتصف شروطه بتسلسل منطقي ينتقل فيه من شرط إلى آخر وفق الآتي:
الرغبة بالشيء
أي يصبح الشخص مكرساً وموجهاً لشيء محدد، فالرغبة تعني أن نريد بشدة ونتجه بقصدية كاملة نحو ما نريده.
اليقظة
التي تبدو ضرورية لتحقيق ما نرغب به، فاليقظة تعني أن نمتلك الوعي التام حول موضوع رغبتنا، وأن نرى الأشياء بجوهرها.
الإدراك
تفضي اليقظة إلى الإدراك، ذلك المصطلح الذي يشير بجذره الألماني إلى الانتباه والوعي، وهذا يؤدي للارتقاء بالتفكير التساؤلي والنقدي فيطلق طاقة المرء ويحرره من الغشاوة التي تعتريه، مما يساعدنا في تبيان الزيف الكائن وتمييزه عن الأصيل في كل ما يحيط بنا.
التركيز
لقد بات التركيز في حياتنا الراهنة أمراً يتجنبه الكثيرون، إذ يفضل أغلبنا أن يقوم بمهامه كلها في الوقت ذاته، مثل الاستماع إلى الموسيقى، تناول الطعام، الحديث مع الأصدقاء، متابعة التلفاز، كل ذلك كسبيل حقيقي للاتركيز.
يقدم فروم حلاً لتعلّم التركيز، ويتمثل هذا الحل بالتدرب على السكون كمحاولة لفهم ما يجري داخلنا، والإصغاء وممارسة بعض الرياضيات التي تساعدنا على التركيز، ليخلص إلى التأمل بوصفه واحداً من أساسيات تعلّم فن الوجود .
التأمل
يميز فروم بين نوعين مختلفين من التأمل؛ النوع الأول هو التأمل الذي يهدف للاسترخاء الذهني والذي طوّره شولتز في ألمانيا. أما النوع الثاني فهو يفضي إلى الحالات التي تهدف لتحقيق درجة أعلى من اللا ارتباط واللا جشع واللا وهم، للوصول إلى مستوى أرقى من الوجود.
ويميل فروم هنا لتأكيد دزور التأمل البوذي بوصفه يؤدي للإدراك الأقصى لتطورنا الذهني والجسدي، للوصول إلى الغاية الأسمى: تحرير الذهن من الجشع والكراهية والغرور.
يناقش فروم بعد ذلك نظرية التحليل النفسي ووعي الذات، ولكنه يستخدم من هذه الفكرة الهدف الكامن وراء العلاج، وهو “تحرر الإنسان من خلال وعي الذات الأمثل، والوصول للكينونة المثلى، والاستقلالية، والقدرة على الحب، والتفكير الواقعي النقدي، وبلوغ الكينونة وليس التملك”.
كل هذا يمثل تمهيداً لحديث فروم عن أهم فكرة، ألا وهي ثقافة التملك، التي حولت الإنسان المعاصر من كونه فاعلًا حقيقيًا إلى مشارك غير فاعل يملك الكثير من الأشياء، ويستخدمها، ولكنه ذو تفكير ضامر وضئيل، يخشى من الآخر ومن العلاقات الاجتماعية والتغير الاجتماعي، فهو ميت بهويته فاقد لوجوده.
من التملك إلى الكينونة
الجسد هو الملكية الطبيعة الوحيدة التي يملكها كل منا، أما باقي الأشياء في حياتنا فهي إما ملكية وظيفية بهدف الاستخدام، أو ملكية غير وظيفية بهدف التملك فحسب. ويبين فروم أن الملكية الوظيفة هامة لوجودنا وهي حاجة فعلية للإنسان، كامتلاك منزل أو لباس أو غيره. أما التملك من أجل الامتلاك فهو ذلك الفعل الذي نما وكبر نتيجة لسيطرة المال من خلال الرأسمالية كما تشير الماركسية، إذ يمكنك شراء أي شيء بالمال.
إن الإنسان الذي يضع نصب عينيه دافعاً وحيداً ألا وهو التملك هو كالبخيل الذي يجد أن أعظم متعة في الدنيا هي في الامتلاك، حتى لو كان ذلك يعني أنه سيحرم ذاته من كل متعة ممكنة.
يرفض فروم هذه الصيغة من التملك ويبين بوضوح تام، أن الهدف من التملك هو تملك الإنسان لذاته، فأنا أتناول الطعام لأني أشعر بالجوع، وهنا يكمن الفرق بين تلبية الحاجة والرغبة المدروسة وبين الشره الذي يجعلني لا أكتفي وهذا يؤذيني جسدياً ومعنوياً.
عند هذا الحد يختتم فروم كتابه بالحديث عن معنى تحقيقنا للكينونة المثلى، أي أن نكون فاعلين حقيقيين بعيداً عن النرجسية والأنانية المطلقة، فقط عن طريقة الإدراك والإرادة والممارسة وتحمّل الخوف والتجارب الجديدة، كل ذلك يسهم في تغيير قناعاتنا كأفراد لتصبح بديهتنا تبدأ من فكرة “أنا أساوي ما أعمل” أو بمعنى آخر “أنا أكون ما أنا عليه”.
لنفكر بأحلامنا اليومية، ونتساءل: أليست هذه الأفكار جزءاً من هواجسنا التي نتمناها، أن نحب حقاً ونكون محبوبين لا أن نشتري الحب؟؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.