تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

بين الإيرادات والنقد.. الزمن في السينما أمً السينما خلال الزمن؟

مقال تحليل سينما
نهلة أحمد مصطفى
نهلة أحمد مصطفى

8 د

كالجواسيس يختبئون في كل زاوية، يراقبوك ويمنحوك الإيهام برؤيتهم. تمد ذراعيك بالظلام تتلمس وجودهم، لتعود يديك خاوية. أحيانًا يطاردوك وأحيانًا تطارد أنت سرابهم، وتظل اللعبة قائمة ما لم تسقط في شباكهم. يدركوك ولا تدركهم أبدًا، جيوش الزمن، وتعيش تلك الرغبة في تطويعهم إلى الأبد بداخلك.

اللحظة التي تشعر فيها بالزمن من حولك وهو يسيطر عليك بطريقة لم تنجح في فهمها بعد، لعلها تكون الأكثر إيلامًا وصدقًا في حياتك. تنجلي عنك الأساطير التي طالما آمنت وتشبثت بها، التي اعتادت أن تخبرك أنك من تمتلك زمام الأمور، وتكتسب حركة عقارب الساعة معنى آخر، يخبرك: إن لم تتحرك الآن سينهار كل شيء.

علاقة الزمن بالسينما معقدة رغم بساطتها، فلا يوجد أي ضامن لخلود الأفلام ومقاومتها لقسوة الزمن والذاكرة سوى جودتها. ورغم الاحتفاء المطلوب بالإيرادات وإقبال المشاهدين وقت صدور الأفلام، إلا إن العُقدة كلها تكمن عند تلك اللحظة.

اليوم نتساءل في "أراجيك فنهل ستنقذ كل تلك العوامل، بعد خمسين عامًا على سبيل المثال، الفيلم من الضياع وسط السيل الهائل من الانتاجات على مر السنين؟ ويصبح علامة فارقة في كلا من تاريخ السينما وحياة محبيه، أم أنه سيصبح مجرد لمحة عابرة يصعُب تذكُرّها؟

الحكايات تُروى في الأصل لتعيش، تستقطب القاصي والداني ليجلس ويستمع إليها، فيشعر بها تمامًا كراويها أو أحد أبطالها مهما مضى عليها من وقت. والسينما مليئة بالأفلام التي لازال يكتشفها الناس بعد سنين وسنين على الرغم من أنها لم تحقق في وقت صدورها أي نجاح فيما يتعلق بالبوكس أوفيس وما إلى ذلك.

لكن الزمن لم يستطع أن يمحيها. ولعل أحد أشهر الأمثلة على ذلك هو الفيلم الشهير "Citizen Kane" الذي يُعد أحد أهم وأجمل الأفلام في تاريخ السينما إلا أن وقت صدوره لم تستطع إيراداته تغطية تكلفة انتاجه، لكن "أورسون ويلز" كان قد خلق بكاميرته قصة يمكنها أن تعيش إلى الأبد وهو ما يتحقق في كل مرة تكتشفه عيون مُحب للسينما لأول مرة.

كما يمثل الزمن طرفًا في المعادلة الكبرى التي يدخلها أي فيلم، فإنه يدخل ذات اللعبة مع شخوص الأفلام وأبطال حكايتهم داخل عوالمهم الخاصة. الكثير من الحكايات تدور حول الزمن، خلال الزمن، في مواجهة الزمن، أو هربًا منه.

كثير من المآسي والفواجع تحدث نتيجة لانعدام القدرة على احتمال ألاعيب الزمن بينما تُقام الاحتفالات والنهايات السعيدة، وإن أصبحت تلك الكلمة كليشيهًا أجوف، في كثير من الأوقات لأن الزمن اختار أن يكون حليفًا ولو لمرة. أما في بعض الأحيان، يختار ألا يكون أحد طرفي الصراع من الأساس، ويكتفي بإضافة لمساته الخاصة... بينما يجلس في خلفية الأحداث يراقب من بعيد إلام سينتهي الأمر. 


خارج حدود الزمن

يجلس كولم على السرير في غرفة مُستأجرة في أحد الموتيلات، ينظر إلى ابنته ذات الأحد عشر عامًا التي يغالبها النوم بينما تستند رأسها على رجله، ويحكي لها عن العالم الفسيح الذي في انتظارها والعمر المديد الذي لا يزال أمامها لتملؤه كيفما تريد، بينما يشعر أن وقته على الأرض آن له أن ينتهي.

تدخل "شارلوت ويلز" في فيلمها "Aftersun" إلى ذكريات بطلة حكايتها "صوفي" البالغة الواحد والثلاثين من العمر، وتعود بها إلى الإجازة الأخيرة التي قضتها مع والدها من عشرين عامًا قبل أن يقرر أن ينهي حياته، تحاول أن تمد يديها لتلمس صورة والدها التي تتلاشى تدريجيًا، تستعيد الذكريات لعلها تضع يديها على ما قد سلب والدها منها.

فيديو يوتيوب

وبينما تتجول داخل تلك الذكريات، نلقي نظرة أقرب على والدها كولم، الذي يشعر بأن الزمن يلاحقه ويحاوطه من كل اتجاه، يحمل وطأته فوق أكتافه ويفشل مهما حاول نفضها عنه، يلقي بنفسه إلى البحر مرة، أو يعتلي سور الشرفة مرة أخرى، يحاول أن يرقص ليطلق لأفكاره العنان لربما تقرر أن تتخلى عنه وتطير بعيدًا، إلا أنه يفشل في كل مرة.

يصارع كولم اكتئابه بينما لا تدري صوفي الصغيرة ما يحدث له، تسأله في عدة مشاهد عن مستقبله وما يحلم به، غافلة عن الروح جالسة أمامها وقد سقطت بالكامل في أشراك الوقت.

يخفي الأب عنها آلامه وأوجاعه، وهو ما عبرت عنه ويلز من خلال الصورة كالمشهد الذي يجمعهم في الغرفة، تجلس صوفي في الغرفة تحكي عن مغامراتها بينما يجلس كولم في المرحاض يداوي جرحًا ما في يديه، ويقسم الحائط الصورة إلى نصفين أحدهما باللون الأصفر الدافئ بينما الأخرى باللون الأزرق البارد، كلاهما في عالمه الذي فات الأوان أن يتداخل مع الآخر.

رغم محاولاتها إلا أن صوفي لم تنجح سوى في منح والدها الحب والسعادة في اللحظات الأخيرة من حياته، والتفهم لمعاناته عندما لحق الزمن بأعقابها هي أيضًا.

بينما يهرب كولم من الزمن، تقبع "موني" وأصدقائها الصغار على حدوده، لا يستوعب إدراك أي منهم ما يدور خارج الفقاعة التي يعيشون داخلها، حيث لا يدري الزمن حتى بوجودهم.

فيديو يوتيوب

يأخذ "شين بايكر" كاميرته ويقتحم فيلمه "The Florida Project"العطلة الصيفية التي تقضيها موني ووالدتها في موتيل بسيط في ولاية فلوريدا، تحاول الأم الحصول على المال بأي شكل ممكن، حتى وإن خدعت وسرقت بعض السياح في بعض الأحيان، وتقديم خدمات جنسية في أحيان أخرى، بينما تقضي الطفلة يومها في اللعب مع أصدقائها وإثارة الشغب في أرجاء المكان.

يأخذنا الفيلم لنرى الحياة اليومية التي تعيشها الأطفال في ذلك المكان، الحياة هناك أشبه بالحلقة الزمنية، الأيام تشبه بعضها إلى حد التكرار، يذهبون إلى ذات الأماكن ويلعبون بنفس الكيفية ويعيشون معاناة الفقر ذاتها مع أهاليهم كل يوم، إلى أن يفقد الزمن معناه ويتجرد من سُلطته ويطرد هؤلاء الأطفال خارج نسيجه بالكامل، فنراهم وقد انسلخوا من طفولتهم بالكامل وأصبحوا نُسخًا مشوهة من أبويهم.

يمهد الجزء الأخير من الفيلم إلى المفارقة التي تحدث في نهايته، حين تهرب موني وصديقتها جانسي من ضباط الشرطة القادمين من مكتب رعاية الأطفال لأخذ موني لتعيش في بيئة آمنة بعيدًا عن والدتها، فتأخذهم أرجلهم إلى الحديقة الموجودة في مدينة ديزني، التي طالما عاشت الفتاتان في ظلالها، في مكان ليس ببعيد عنها أبدًا لكن المسافات بينهما لا يمكن حصرها. 


فرصة ثانية في الماضي

إذا منحك الزمن فرصة أخرى للتعرف على جانب آخر بداخلك وجانب آخر من الحياة لم تغامر يومًا باستكشافه، هل ستقبل الدخول في تلك المغامرة؟

يتلقى "جوني" يومًا مكالمة هاتفية من أخته التي طالت بينهما القطيعة بعد وفاة والدتهما، تسأله إذا كان بإمكانه استضافة ابنها عنده لبعض الوقت بينما ترعى زوجها المريض، ولأن لم يكن من طبيعة جوني أن يتحمل المسؤولية كثيرًا كان هذا الطلب بمثابة عبء لا يحتمل، لكن لم يسعه الفرار هذه المرة ويستقبل "جيسي" في حياته، ويذهب معه في مغامرة صغيرة في أرجاء البلاد بينما يقوم بعمله كصحفي راديو.

يبدأ فيلم "C’mon C’mon" للمخرج مايك ميلز بمتابعة مغامراتهما سويًا التي تعثرت كثيرًا في بدايتها، وندم عندها جوني علي تحمل مثل تلك المسؤولية.

فيديو يوتيوب

لكن مع مرور الوقت نرى جيسي وهو يفتح الباب لكثير من المشاعر الجديدة والمخيفة التي تجتاح عالم خاله جوني، وبينما يقوم الأخير ببعض اللقاءات مع الأطفال حول الولايات المتحدة ليسألهم أسئلة مختلفة عن مستقبلهم وأحلامهم، تتبدل نظرته نحو حياته، فيراها بعيون هؤلاء الأطفال، بفلسفتهم البسيطة عن الحياة البعيدة تمامًا عن التعقيد الذي تضيفه نظرات البالغين منا.

في أحد مشاهد الفيلم، يقرأ جوني سطورًا من إحدى كتب الأطفال لجيسي، ويحكي الكتاب عن مغامرة النزول إلى كوكب الأرض فيقول: "عليك أن تتحول أولًا إلى إنسان ثم تتعلم التعامل مع جسدك، كيف تحرك أذرعك وأرجلك، كيف تمشي وتركض وتتكلم، ستشعر بالحزن والسعادة وخيبة الأمل، سيكون هناك الكثير مما عليك تعلمه.

وخلال كل ذلك ستتعلم كيف تفهم تلك الحياة الغريبة المتغيرة دائمًا التي تعيشها" وبطريقة أو بأخرى تلك هي الحال حين يقرر الزمن أن يعقد صفقة جديدة معك لمنحك فرصة جديدة لتصحيح أخطاءك، فيكون الأمو وكأنك تتعلم المشي والكلام لأول مرة، تتعلم معنى المشاعر وقوتها وضعفك الممزوج بقوة لا يستهان بها لتتحملها، وسيكون عليك تقبل التغيير لأنه الشيء الوحيد الثابت.

ولأن جوني قبل الدخول في تلك المغامرة، نرى طوال أحداث الفيلم كيف يتعلم أن يحيا من جديد.

لا يقرر الزمن دائمًا إعطاء فرصة أخيرة، وأحيانًا يقرر المضي قدمًا بعد أسره لأناس كُثر.. فيسير إلى الأمام حاملهم معه في جعبته، متوقفين عند تلك النقطة التي خسروا فيها النزاع، غير قادرين على الحركة مجددًا.

وهنا حيث تقف "لي إسرائيل"، حين كانت كاتبة مُحققة تكتب في أحد أكبر الصحف العالمية ولها طبعات كثيرة من كتبها المؤلَفة في متاجر الكتب فوق أرفف الأكثر مبيعًا، لكنها فشلت في مجاراة الزمن وخسرت، وأصبح الماضي حاضرها، ومستقبلها لا يمكن التنبؤ به.

تبدأ "لي" في فيلم "Can You Ever Forgive me?"، المبني على قصة حقيقية، للمخرجة "ماريل هيلر" بالانتباه للزمن حين تجد نفسها في منتصف الخمسينات من عمرها دون وجود أرض صلبة تستطيع الوقوف عليها.

فيديو يوتيوب

تقول في أحد المشاهد: "كان عليّ أن أكون أكثر مما أنا عليه الآن" وحين تفشل في استكمال مسيرتها، في تحقيق ذاتها بالنجاح في فهم الزمن المتغير وإعطاء نفسها فرصة للتجديد، وتجد أن حياتها على وشك الانهيار، تبدأ في انتحال شخصية كُتاب ومؤلفين قدامى وكتابة رسائل بأسمائهم ثم بيعها للمهتمين.

تجد لي نفسها في الماضي، بين الكتب القديمة التي تستخرج منها رسائل قديمة لتزويرها، أو بين الكُتاب الذين حققوا نجاحًا خلال حياتهم، وكأنها بذلك تحاول اثبات أنّ الزمن لم يتوقف بها وأنها مازالت تسير معه لكن وفق شروطها الخاصة دون أن تخضع لمتغيراته.

ذو صلة

لذلك كانت تشعر بفخر شديد عندما يخبر أحد المشترين أن الرسائل عبقرية وفيها من روح الكاتب، فهي لازالت تحقق النجاح بكتاباتها، أيًا كان العصر والزمن الذي تنتمي إليه تلك الكتابات، فلا يسعك سوى السؤال: مَن انتصر هنا؟ ومَن الخاسر؟

عند إلقاء نظرة سريعة إلى كل الأفلام السابق ذكرها، سنرى بالكاد أي نجاح تجارى قد تحصل عليه أي فيلم منهم، لكن إذا أخدت جولة وسط آراء من شاهدوه، سترى أثرًا عميقًا قد تركه كل منهم داخلهم، وهو الأمر الذي يثبت أن تلك الأفلام ستقاوم الزمن وتبقى خالدة، وسيتجدد الحديث عنها كل عدة سنوات، حين تشاهدها عيون جديدة وتقع في حبها.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة