نجيب محفوظ

7 د
نرشح لك قراءة: صالونات ومقاهي شهيرة أثرت في الحركة الأدبية والثقافية عبر الزمن
قرر نجيب محفوظ كتابة رواية الكرنك بشكلٍ جريء، فقد كان يستمع في المقاهي لقصص المعتقلين السياسيين في سجون حمزة البسيوني، مدير السجن الحربي في فترة حكم جمال عبد الناصر، وما يشهده هؤلاء بداخلها. وفي لقاء له مع رجاء النقاش كان محفوظ يرى بأن كتابة رواية مثل الكرنك هي حتماً كانت مغامرة، وأغلب الكتّاب كانوا سوف يجدون رهبة وخوف لسرد رواية بها أحداث تبرز فساد أجهزة الأمن والمخابرات في نظام عبد الناصر.
كانت السلطة مطمئنة في عهد عبد الناصر وواثقة من حسن نوايا محفوظ في كتاباته، وكان محفوظ واثقاً بأن لديه من العلاقات والمواقف التي تؤكد له بأن الأمر سيمر بسلام خصوصاً بعد تدخل عبد الناصر بعد نشر رواية “ثرثرة فوق النيل” ومنع قرار اعتقاله الذي أصدره المشير/عبد الحكيم عامر. فكان يعتقد بأنه يستطيع سرد كل الأحداث التي سمعها بالسجون والمعتقلات في رواية.
فكتب محفوظ الرواية وأرسلها إلى محمد حسنين هيكل في الأهرام، فثار لما تناقشه الرواية واعترض عليها ورفض نشرها. فهيكل كان من المُقربين جداً لعبد الناصر ولن يقبل مثل تلك الرواية تحت أي ظرف من الظروف، واستدعى هيكل توفيق الحكيم ليشكوه في نجيب محفوظ، ولكن لم يبالي محفوظ بذلك فأرسلها محفوظ إلى صديقه عبد الحميد جودة السحار فوافق عليها، وأرسلها السحار لكي يتم مراجعتها أولاً من الرقابة ثم تتم طباعتها في مكتبة مصر.
نرشح لك قراءة: هل النجيب كان محفوظاً؟ نرصد لكم عثرات في حياة أستاذ الرواية العربية
رواية الكرنك تسرد أحداث ما بين الثورة والنكسة، فهي من الروايات ذات الطابع السياسي للعالمي نجيب محفوظ. ضمت الرواية الأحداث التي شاهدها الشباب عقب ثورة 23 يوليو والتي كانت بمثابة طوق النجاة الأول لديهم جميعاً. ولكن لم تطوق أحلام هؤلاء الشباب بالحرية التي كانوا يطمحون لها على الرغم من كل الإنجازات التي حققتها الثورة فيما بعد.
في ضوء الرواية، اختلس نظام عبد الناصر الحرية فضلاً عن حملات الاعتقالات والتعذيب بداخل السجون في كل من يشتبه فيه بأنه ضد الثورة والنظام. تدور أحداث الرواية حول شباب من الطبقة المثقفة المؤيدة للثورة ونظام عبد الناصر، يتعرض هؤلاء الشباب للاعتقال من قبل جهاز المخابرات واتهامهم بأنهم شيوعيين ومرة أخرى بأنهم ينضمون لجماعة الإخوان.
يفقد هؤلاء الشباب إيمانهم بالثورة بعدما ثبتت براءتهم من تلك التهم يكونوا قد تعرضوا لأبشع طرق التعذيب. ويصور محفوظ تحول هؤلاء الشباب الجامعي الواعي الذي يحمل أحلام وطموحات إلى فقدهم للقيم الإنسانية والنظر للحياة بنظرة يأس وضعف بعد خروجهم من السجن.
“ولفت نظري بصفة خاصة إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية، يتغنيان بعنتر وفتوحاته، يعاتبان مرارة العيش ولكنهما يتغنيان بعنتر وفتوحاته، كأن الفقر قد هان عليهما من أجل النصر والكرامة والأمل”.
تنقسم الرواية بشكل أساسي إلى أربعة فصول كل فصل يحاكي شخصية لعبت دوراً في الرواية، ففي الفصل الأول جاء بعنوان “قرنفلة” وهي راقصة معتزلة في الأربعين من عمرها، صاحبة مقهى الكرنك والتي تحكي عن الشخصيات في المقهى وعلاقتها معهم.
والفصل الثاني لشخصية “إسماعيل الشيخ”، شاب من أسرة فقيرة جداً، طموح من أبناء الثورة ومن أشد المؤيدين لعبد الناصر والاشتراكية المصرية. يتعرض للاعتقال ليلاً بتهمه في مشهد مهين وبعدما تثبت براءته، يتعرض لمحاولة اعتقال ثانية بتهمة انتمائه للشيوعيين، ولكن يخرج في تلك المرة بتصريح من خالد صفوان والذي يجعله مخبراً على أصدقائه. ولكنه تعرض للاعتقال مرة ثالثة لأنه لم يبلغ عن صديقة “حلمي حمادة” الشيوعي ولم يخرج إلا بعد النكسة.
“في السجن اجتاحنا الضياع فاهتز بناؤنا المتين من أساسه” _ إسماعيل الشيخ.
أما الفصل الثالث لشخصية “زينب دياب” وهي تحكي عن زملائها وحبها لإسماعيل الشيخ. وتعرضها للاعتقال، واغتصابها بداخل السجن من قبل الضابط. بل وطلب منها الضابط مثلما طلب من إسماعيل الشيخ بأن تكون مخبرة على زملائها، وكانت النتيجة الأكثر وقاحة التبليغ عن حلمي حمادة صديقها، فكانت السبب في اعتقاله وموته ولا أحد يعلم. بعد خروجها من السجن تحولت زينب من امرأه شريفة لها مبادئ وهدف من الحياة إلى امرأة اتجهت للبغاء والربح منها.
“غير أننا كنا نشعر بأننا أقوياء لا حد لقوتنا، أما بعد الاعتقال فقد اضطرب شعورنا بالقوة وفقدنا الكثير من شجاعتنا، وثقتنا في أنفسنا وفي الأيام، واكتشفنا وجود قوة مخفية تعمل في استقلال كلي عن القانون والقيم الإنسانية”.
الفصل الرابع والأخير “خالد صفوان” الضابط الذي يمثل الظلم والاستبداد واعتقل إسماعيل واغتصب زينب وعذب حلمي حتى الموت. ولكن تظهر شخصية الضابط في المقهى بعدما تم سجنه ثلاث سنوات ومصادره أمواله وأصبح من عامة الشعب بعد النكسة. ولكنه تحول بعد كل هذه السنوات لشخص آخر. فأصبح لا يحب الاستبداد والدكتاتورية، ولا العنف الدموي، واعترف بالحرية وقيمة العلم والمنهج العلمي.
“كلنا مجرمون وكلنا ضحايا”.
نرشح لك قراءة: نظرة على المجتمع المصري في أدب نجيب محفوظ: التفاوت الطبقي نموذجًا!
بعد طبع الرواية ونشرها، طلب نجيب محفوظ من صديقة السحار بأن يتم وقف نشر الرواية، فقد خضعت الرواية لعملية قص وحذف أحداث وجمل كثيرة بها، وتم تشويهها تماماً من قبل الرقابة. ولكن تم استكمال طباعة الرواية حتي لا تحدث خسائر مادية، وترك محفوظ الأمر وكان قد تمنى عدم نشر الرواية أبداً.
بعد نشر الرواية سرعان ما أخذت صيتاً خصوصاً وسط التيار اليساري، فانقلب اليساريون على محفوظ؛ لأنهم اعتبروها هجوماً على عبد الناصر، وخصوصاً لأنهم في تلك الفترة كانوا مشتبكين مع أنور السادات وأنصاره، واعتبروا الرواية مؤيدة للصف المقابل -صف السادات وأعداء عبد الناصر- لكن برر محفوظ موقفه بأنه لم يقصد الهجوم على عبد الناصر، وهدفه الوحيد كان إثارة قضية التعذيب في المعتقلات آنذاك.
لم تقتصر رواية الكرنك على غضب اليساريين منها فقط، بل وصل الأمر برفع صلاح نصر، رئيس جهاز المخابرات في فترة حكم جمال عبد الناصر، دعوى قضائية ضد نجيب محفوظ بتهمة التشهير، باعتباره هو المقصود بشخصية الضابط في الرواية “خالد صفوان” المسؤول عن الاعتقالات والتعذيب. ولكن قد صرح نجيب في لقائه مع رجاء النقاش بأنه كان يقصد بشخصية خالد صفوان اللواء/حمزة بسيوني، والذي اشتهر في قضايا تعذيب السجناء.
“كذلك انتابني شعور آخر بأنني تسرعت في إصدار الكرنك، وأحسست أنه لم يكن هناك داع لكتابتها أصلاً. خاصة أنها لم تكن في خطتي الأدبية، والذي دفعني لكاتبتها هم هؤلاء الشبان الذي قصوا عليّ ما تعرضوا له من تعذيب أثناء اعتقالهم، فكتبتها لمجرد التعاطف معهم” _ نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش.
نرشح لك قراءة: الكتب الأكثر استدعاءً في الأعمال الفنية.. ما علاقة نجيب محفوظ؟
في بداية قراءة رواية الكرنك قفز في ذهني بأنني أمام رواية تاريخية لنجيب محفوظ مرة أخرى، حيث أن من المعروف بأن الكرنك أشهر المعابد في مصر القديمة بالأقصر، ولكن مع أول صفحة وجدت سرد الأحداث طبيعياً فالكرنك مقهى، كأنما أراد بأن تكون تفاصيل الرواية كلها كما سمعها من خلال المقاهي التي كان يتردد عليها، فالكرنك ربما يكون هو البطل الحقيقي للرواية خصوصاً أن الرواية كانت طريقة سردها من خلال حديث كل شخصية على حدة من خلال ذاكرته حول ما تعرض له والمُستمع الأساسي هو نجيب محفوظ.
نرشح لك قراءة: أحمس طارد الهكسوس كما رآه نجيب محفوظ في رواية كفاح طيبة
أعتقد بأن أهم الفصول هو فصل الضابط خالد صفوان، الذي كان شخصياً ضحية للنظام، ومجرماً ضد هؤلاء الشباب وهو لا يعلم أو ربما يعلم، ولكن المنصب وما كان يرتكبه كان يبرر لنفسه باسم الدفاع عن الثورة والنظام، فضلاً عن أنه تحول في النهاية لشخصية أخرى تؤمن بالحرية وتكره الظلم والديكتاتورية.
في النهاية.. الانطباع العام للرواية جيد، وربما تقاربت الأحداث في الرواية للواقع حالياً، ومع ذلك شعرت بأنه ما زالت هناك حلقة مفقودة انتظرتها في الرواية ولا أعلم ما هي!
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.