رواية أدب رخيص للكاتب بوكوفسكي: إهداء مبدع للكتابة الرديئة
هنري تشارلز بوكوفسكي كاتب أمريكي من أصول ألمانية، برع في القصة القصيرة، وله إنتاج غزير في الشعر بشكل يكاد لا يصدق، كان مُقلًا في الإنتاج الروائي لكن استطاع تقديم ستة روايات إلى المكتبة العالمية، وعلى الرغم من قلة أعماله الروائية إلا أن كل عمل فيها هو عمل فريد ومميز، وطفرة في الأسلوب والسرد والحبكة، وفي هذا المقال سنتحدث عن واحدة من أهم روايات الكاتب وهي رواية أدب رخيص.
نرشح لك قراءة: الكتب الرديئة في مدينة القرّاء: جرائم ورقيَّة لا تُغتَفَر!
قصة رواية أدب رخيص
نيك بيلي محقق خاص في لوس أنجلوس، يعمل على حل قضايا معقدة ولكن قضايا من نوع خاص، أولًا تأتي إليه السيدة موت وتسأله عن الكاتب الفرنسي سيلين -يعد أعظم روائي فرنسي بعد بروست- وعلى الرغم من موت الكاتب الكبير منذ سنوات، إلا أن السيدة تتمسك برأيها وتصر على أن موته كان خدعة والكاتب الكبير ما زال يعيش وتريد من المحقق بيلي أن يعثر عليه.
بعد ذلك يأتي له رجل خمسيني يدعى جاك باس غني يعيش حياة جيدة، ومتزوج من فتاة عشرينية جميلة، لكنه يشك أنها تنام مع رجال آخرين ويريد باس من المحقق أن يمسكها متلبسة ويصورها بالكاميرا حتى يضمن الرجل فعل زوجته ويتخلص منها.
السيد جاك والسيدة موت تم إرسالهما للمحقق عن طريق ترشيح من جون بارتون، وجون بارتون بنفسه كان يريد من المحقق أن يعثر له على العصفور الأحمر، وهذا العصفور لا يملك جون أي معلومات عنه فقط يريده.
وأخيرًا يأتي له دافن الموتى “الحانوتي” جروفرز ويخبره أن هناك امرأة فضائية فاتنة الجمال تفسد حياته وتجعله يفعل كل ما تأمره به، ويريد من المحقق أن يتخلص منها.
نرشح لك قراءة: في قبوي – حكاية دوستويفسكي عن البائسين في القرن التاسع عشر
بوكوفسكي والبصمة الشخصية
لا يستطيع بوكوفسكي الكتابة عن شيء إلا نفسه، لهذا السبب كان مُكثرًا في الشعر الذي يسمح له بسهولة أن يعبر عن نفسه بلا توقف، لكن عند قراءة باقي أعماله الأدبية سنكتشف أنه ما زال يحاول التعبير عن نفسه بطرق مختلفة فرواية أدب رخيص على سبيل المثال غارقة في العشوائية والغموضة والسيريالية، وبتتبع النمط المستخدم في سرد الأحداث سنجد أنه يمثل أسلوب العيش الذي كان بوكوفسكي يدعو إليه وهو العيش بجنون.
بوكوفسكي كما هو ونوعية جديدة
قال بوكوفسكي عن رواية أدب رخيص أنها إهداء للكتابة الرديئة، كما أختار عنوان “أدب رخيص” ليكون عنوان الرواية، والحقيقة أن الرواية لا تنتمي للأدب الرخيص ولا الأسلوب يمكن اعتباره سيئًا لذلك أعتقد أن بوكوفسكي كان يجد أن هذا النوع من الأدب هو نوع رخيص وشعبي، وذلك لأن الرواية تنتمي لأدب الجرائم والتحريات، ولكن الكاتب لم يتوقف ويحاكي أدب التحريات والبحث، بل أخذ هذا الأدب ونقله إلى مكان آخر تمامًا، وذلك عن طريق استعمال خلطة سرية سأكشفها في الفقرات القادمة.
اللغة البذيئة في أدب رخيص
الذي لا يعرف بوكوفسكي سيصدم كثيرًا عندما يبدأ في قراءته وذلك لأنه سيجد هذا الروائي الكبير يستعمل السُباب والشتائم والألفاظ السوقية كثيرًا، ولكن كما قلنا بوكوفسكي يكتب عن نفسه، وقد كان في الواقع صاحب لسان لا يحتمل، يكفي أن نقول أن أعماله قد منعت من النشر لمدة من الزمن في أمريكا، نعم أمريكا التي تقدم كافة أنواع الحريات اليوم لم تتحمل تقديم بوكوفسكي وأدبه لجمهورها، لكن كان لبوكوفسكي، لكن أنقذه بالطبع أن قد بدأ باكتساب شعبية واسعة حول العالم.
اشتهر بوكوفسكي بمواقف كثيرة حادة تميل إلى الوقاحة فهو صاحب الجملة الشهيرة “أعطوني أموالكم أعطكم روحي” وقد قال هذه الجملة في حفل لإلقاء الشعر أمام الجمهور، كما كان يظهر في البرامج التلفزيونية بالخمر وهذه اللغة، لذلك ليس من الغريب أن تكون الرواية التي بين يدينا بها هذا الأسلوب، والحق أنه ليس مبالغًا فيه لدرجة منفرة، بل يمكن اعتباره مثل أي فيلم أمريكي اليوم فالأفلام أصبحت على نفس القدر من الجرأة والواقعية، لذلك سنعتبر أن أول ما يميز رواية أدب رخيص هو الأسلوب الصادم والجريء الذي يستعمله الكاتب للبوح عما يريد دون الاهتمام بأي قواعد.
العوالم الميتافيزيقيا
بوكوفسكي هو كاتب الحواري والأزقة، يكتب عن الفقراء والمشردين، يكتب عن المرأة والجنس، يكتب عن الخيالات البذيئة والأشياء التي لا يجرأ أن يعبر عنها من يملك لقب أديب -غير بوكوفسكي بالطبع- وفي هذه الرواية ضاف بوكوفسكي على واقعيته جرعة دسمة من الخيال والعوالم الميتافيزيقا، وقد خلقت هذه العوالم إيقاعات متنوعة في الرواية تجعل القارئ يلتهمها بنهم وبسرعة وشغف، فبدلًا من جعل القصة بوليسية تقليدية، جعل المحقق يتصل مع الموت -السيدة الجميلة- ويتصل بالفضائين، وأضاف عناصر كثيرة جعلت الرواية مشوقة للغاية.
سلاسة السرد وعبقريته
رواية أدب رخيص هي النتاج الأخير للكاتب أثناء حياته، كتبها ومات في نفس العام جراء إصابته بسرطان الدم، وعلى الرغم من أن حياته تنتهي، إلا أنه قرر أن يترك بصمة جديدة في مسيرته، وقد نجح في هذا بالطبع، فبعيدًا عن كل عناصر الرواية، يأتي السرد ليضيف بعد آخر يعتبر هو نقطة القوة الرئيسية في الرواية، فالسرد سلس ومنوع، وينتقل بسهولة بين الخيالات القذرة، والحكمة العالية، تارة يصبح سوقيًا وتارةً يصبح مثقفًا فذًا، انتقلت من الواقع للخيال، وعناصر أخرى كثيرة استطاع السرد الروائي أن يطوعها ويضعها في شكل معبر عن كل شيء.
بطل الرواية نيك بيلي
نيك بيلي هو إنسان ناقم على الحياة يكره كل شيء فيها، نجده يكره فرشاة الأسنان، والبشر، والتلفاز، والمشاهير، والشوارع، ولكن بين هذا الكره والعبث، وبين خيالته الجنسية وبين شربه الكثير، نجد بداخله إنسان يرفض كل هذا ويعلم أنه يحب الحياة، نعم يتعامل مع قضاياه بعدم اكتراث، لكننا نجده في مواقف أخرى يحتفل عند حل قضية، وفي صفحات أخرى نجده يعترف بأنه يحب نفسه.
وهكذا أكون قد انتهيت من نقد وتحليل رواية أدب رخيص هنري تشارلز بوكوفسكي وهي الرواية التي تسير على وتيرة معتدلة، وبها الكثير من المتعة والإثارة، الرواية المليئة بالخيوط الغامضة في البداية لكن يتم ربطها بذكاء على طول الرواية، الرواية قريبة من أفلام كوينتين تارنتينو جرعات متفاوتة من المتعة طوال الرحلة بعيدًا عن النهاية، وجرعات من الخيال مثل روايات هاروكي موراكامي.
وفي النهاية لا يمكننا أن نقول إلا أن بوكوفسكي كان يكتب عن نفسه، الرجل الذي يضجر من كل شيء، وفي جوفه هناك أمل للحب.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.