آخر يوم لمحكوم بالموت: فيكتور هوغو وحكاية الدقائق السابقة للنهاية
7 د
يُعد “فيكتور هوغو” كاتب شهير معروف بروايتيه: (“البؤساء” و”أحدب النوتردام“)، وهو شاعر وروائي فرنسي كبير القيمة. اليوم نتحدث عن روايته “آخر يوم لمحكوم بالموت“، والتي هي -من دون قطع- أولى تجاربه الروائية، ويقال إنه أنجزها في 24 ساعة بناءً على رهان. صدرت الرواية للمرة الأولى عام 1829، وترجمت للعربية عدة ترجمات بعنواين متقاربة، أختار منها نسخة “منشورات الجمل” الصادرة عام 2016 بترجمة “جرجيس فتح الله”.
نرشح لك قراءة: البؤساء – ماضي وحاضر صراعات أزلية خلدت صاحبها
آخر يوم لمحكوم بالموت: عن الفكرة والفن
هناك طابع يميز المسلسلات الكوميدية التي يقوم بتأليفها ممثلو “ستاند أب”، تلاحظه، على سبيل المثال، في مسلسلي “Seinfeld” و”Louie” إذ أن بطليهما اشتهرا أساسًا بكوميديا الاستاند أب. عندما تشاهد هذه الأعمال تشعر بأن كثيرًا من القصص لم تكتب لتؤدى في صورة مواقف كوميدية قابلة للتصديق، بل لتؤدى على المسرح في جزء من تصور الفنان عن العالم والذي يضعه في قالب فكاهي. ببساطة: الكاتب يحول النكتة إلى موقف كوميدي بغض النظر عن احتمالها، يعيد إنتاج مادته، ولأن هذا مدفوع (خاصة إذا كنت تعرفه مسبقًا) فهو كفيل بإفساد الواقعية وإلغاء اتصالك بالحدث. فضلًا عن أن تدعيم أركان العمل، الضروري ابتداء، يتخذ مع محورية النكتة درجة هامشية.
من منظور أوسع، يفترض أن كل فن يقدمه المرء ليس إلا تحويرًا لآرائه الصريحة عن الناس والدنيا؛ مجرد تحايل غرضه عدم التصريح، وطريقته الاختباء خلف شخوص وخيالات تؤدي مع الدور الأصلي (إيصال الآراء) دورًا جانبيًا يحدده نوع العمل. ينطبق هذا على كثير ويبدو أوضح ما يكون في صناعة الأفلام، لكن المشكلة أنه لا ينال تقديرًا كالذي يناله إذا قُدم في صورة أدب.
ما أعنيه هو أن الفن مبني على الخداع، أي إقناع المتلقي بأن هذا العالم الخيالي (القصة أو الفيلم) أصيل، وبالتالي فإن مجرد شعور القارئ بأن القالب المحتوي للآراء هش، يزيل الإيهام ويفضح العملية، فلا يعود ثمة مجال للتصديق والذي هو شرط الانغماس. بعبارة أوضح: (لا يمكن التعامل مع بطل القصة إذا كنت أعلم أنه ليس ثمة بطل، وأنني أشاهد الكاتب يحكي عن نفسه، محاولًا تغطية هذا مع وضوحه).
تأتي رواية “آخر يوم لمحكوم بالموت” لـ “فيكتور هوغو”، خاصة مع مرور الزمن، في سياق ذم حكم الإعدام والإشارة إلى خلوه من الإنسانية، وإذا كنتَ قرأت مقدمة المترجم فأنت تعرف أن التصديق على هذه العقيدة هو الغرض الوحيد من نقله النص إلى العربية.
بغض النظر عن خلافي مع الفكرة الجذرية للرواية (الحقيقة أن موقفي أقوى مما توحي به لفظة “خلاف” الخفيفة)، فإن قراءة النص الذي يفترض أن يكون إنسانيًّا لامسًا للمشاعر، باعتباره مقالة طويلة لإثبات وجهة نظر، لا يسمح بتاتًا بأخذه بجدية. كل ما سبق تمهيد لأقول إنني، مع درايتي بأهمية رواية “آخر يوم لمحكوم بالموت”، لم أستمتع بها مطلقًا. وقد كنت على وشك الامتناع عن كتابة هذا المقال لولا أن المرء لا يكتفي بالكتابة عما يحب.
أن تُسلب الحرية
طيب، لماذا أكتب؟ لأن الاستمتاع ليس شرطًا للإفادة، وكثيرٌ مما تكره يتفتق مع التركيز عن نفع كبير. كما أن الرواية -وقد شرحت هذا في مقالة سابقة- اجتماع لعدد كبير من الأجزاء، يمكن أن تختلف مع فكرتها الكلية وتتفق في الوقت عينه مع بعض أفكارها التفصيلية. لا تنس أن براعة الكاتب (مع جودة الترجمة) لا يمكن أن يغطيها أي قدر من الإنكار لفلسفته. وبالطبع، قبل هذا كله، لأن إعلان المخالفة جزء رئيسٌ من شخصية أي ناقد.
تبدأ الرواية بتحليل تداعيات انفصال البطل عن الحرية. يغرق “فيكتور هوغو” في الاستعارات ولا يقتصد في تعميقها والبناء عليها، ويخبرك من خلال ذلك بمدى البؤس الذي قد ينتج عن حرمان امرئ من حريته. هذا الانفتاح الفوري على مأساوية الحياة، هذه المواجهة غير المحكومة للمخاوف والكوابيس. الحبس هنا على صورته الحقيقية حيث يجلس البطل تحيط به الجدران، والمجازية حيث تتداعى عليه سلاسل الأفكار السوداء مع غياب كل وسائل التشتيت وطرق الفرار ووسائل المساعدة التي يتمتع بها الحر.
يقوم “هوغو” بتكثيف حياة مجهولة لم يعشها أغلب قراء الرواية، يطرح أسئلة من نوعية: ما الذي يدور في عقل محكوم بالإعدام؟ كيف يجد وقتًا للتفكير في الندم والشعور بالذنب وكل ما يملأ رأسه الموت المحتوم ودنو النهاية؟ ربما بالغ أحيانًا في استدرار مشاعر القارئ (ذكْر ابنته نموذجًا، وإن كان مفهومًا من البطل) لكنه أيضًا طرح الأسئلة الصحيحة.
في تسلسل الفصول نرى مواجهات البطل المحكوم بالموت مع الأجرام والأفكار التي قدره التعاطي معها قبيل نهايته. هناك في حجرة السجن المشغولة بأرواح من سبقوه؛ بحضور كل المعذبين المارين بهذه المحطة المشؤومة المفضية إلى المقصلة. كتاباتهم على الجدران وأشباحهم الهائمة في الأركان، موتٌ واحد يكفي الإنسان لكن ستدهشك قدرته على تحمل المزيد، ستسحرك رؤيته يتشبع بأنفاس السابقين وأقدراهم وطرقهم التي قطعوها ويوشك هو على قصدها.
ميّتٌ يمشي
“محكوم بالموت! ولم لا؟ فالناس -كما أذكر أني قرأته في كتاب ما لا يحوي شيئًا جيدًا غيره- الناس كلهم محكومون بالموت. فما الذي تغير من وضعي إذًا؟ ترى كم شخص وافته المنية وكان يتوقع أجلًا طويلًا مرسومًا معينًا؟ كم عدد أولئك الذين ذهبوا قبلي وكانوا يتطلعون إلى اليوم الذي سيسقط فيه رأسي على بلاط ساحة “غريف” منذ أن لُفظ الحكم عليّ وهم شبان أصحاء أحرار؟ كم منهم سيموت اعتبارًا من هذه الساعة وهم الآن أحياء يرزقون؟ يستنشقون الهواء المعطر. يدخلون ويخرجون بملء الحرية”.
أذكر أن مشاهدتي لفيلم “Dead Man Walking” كانت تجربة ثقيلة. لعله أصعب فيلم شاهدته على الإطلاق، وهو يدور في فلك “آخر يوم لمحكوم بالموت”. لكن لأن الفيلم كان غنيًّا بالمشاعر والقضايا فإن التفكير في تبنيه الأساسي لفكرة حكم الإعدام لم تعبر خاطري، بل انصب تركيزي كله على أحاسيس هذا المقبل على الهلاك، المتمسك بأمل يزيد حاله سوءًا ويشوّه كل قدرة له على التماسك، المواجه -ربما للمرة الأولى على الإطلاق- لذاته وأفعاله وآماله.
نرشح لك قراءة: مسلسل The Walking Dead وسحر الموتى السائرون
إذا نحّينا القضية المذكورة جانبًا، نستطيع القول إن ما تشنّع عليه الرواية في الحقيقة هو الظلم؛ الظلم السافر الذي جعل أقوامًا يتلفون أعمارهم في السجون والأعمال الشاقة من أجل جرائم كسرقة الرغيف أو أحقر (لعلنا قابلنا في هذا النص الأصلَ الذي طوّره “فيكتور هوغو” لاحقًا في “البؤساء”)؛ الحرف الذي يعيش عليه المهمشون مهددين بهلاك عاجل يتبع كلمة يتفوه بها شخص عشوائي صادف أنه ذو سلطان. لا يمكن أن يكون “هوغو” بصدد نقد فكرة العقاب نفسها، ولا أحسبه يرى السجن العقيم الذي صوّره أكثر بشريّة من الحكم بالموت.
نرشح لك قراءة: إلى لاجئي العالم.. التشبث بالحياة ليس جبناً!
حفنة من الورق
“بدأ تغير يطرأ على باطني. كنت أشعر حتى صدور الحكم عليّ بالموت بوجيب قلبي وبأنفاسي تتصاعد وبأنني أحيا كسائر البشر، أما الآن فأرى بكل وضوح أن سدًّا أقيم بيني وبين العالم وأن الأشياء لم تعد الآن تبدو لي كما بدت قبلًا. هذه النوافذ المنيرة العظيمة. هذه الشمس الرائعة. هذه السماء الصافية. تلك الزهرة الظريفة. كلها انقلبت بيضاء مقبضة كالكفن”.
لا عجب أن البطل لجأ إلى الكتابة. التساؤل عن العلة زائد عن الحاجة لأننا نعلم يقينًا أن العملية حتمية تقريبًا، إذ كيف يمتلئ هذا الفراغ بغير الإنشاء؟ هل يساعد هذا أو يزيد من عمق المأساة؟ لا يهم فالإغراء لا يقاوم على كل حال: مقاومة النفي بالتعبير عن النفس وإثبات وجودها، مقاومة تجاهل العالم باقتحامه مُستَلًّا حفنة من الورق.
هذه هي المأساة الحقيقية هنا والمعبرة عن ألم الإنسان الأكبر: استعمال هذه الطرق المثيرة للشفقة للتعبير، ومناهزة الواقع بواقع أفضل منه نتناسى أنه هزيل. إننا نرى المحكوم يتعرض لقس ينصحه ويذكره بإيمانه وقد أشرف الموتُ، ثم نعلم من البطل شعوره بعاديته وخلوه من التميز رغم المأساة العظيمة. كان يعلم أن هذه وظيفة القس وأن الحدث بالنسبة إليه بات مع التكرار اعتياديًّا، ما يعني أنه نسخة من متشابهين لا يؤبه لهم، بل وأسوأ من ذلك أن الحياة ستستمر، وحتى غرفته هذه سيشغلها بعده مباشرة محكوم آخر يعظه القس نفسه أو غيره. لعل الكتابة قد أعانته، ربما ساعده الشعور المزبف بالتحكم بالقدر الذي يمنحه القبض على القلم ومحاكاة الواقع.
لأجل هذا فإن النهاية أشد أجزاء “آخر يوم لمحكوم بالموت”، حيث يدرك القارئ أن السرد لن يتم لأن حياة الكاتب -ببساطة- لم تتم. لو كان هذا يُفقد الرواية معناها فأنت تفهم أخيرًا كيف أفقد الحكمُ بالموت على البطل -بغض النظر عن استحقاقه- الحياةَ والأشياءَ معانيها.
اقرأ أيضًا للكاتب محمود أيمن:
- أنشودة المقهى الحزين للكاتبة كارسن ماكالرز: رواية كالحة وبهيجة في الآن نفسه!
- بيت من لحم للكاتب يوسف إدريس: عن القصة بين خيالية الأصل وواقعية المغزى!
- أغنية هادئة: رواية فرنسية مغربية تخفي كثيرًا من الصخب حول عالمي الفقر والغنى
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.