خالد حسيني

8 د
لماذا ينجح خالد حسيني كل مرة في أن يوقعنا في شراك حروفه وأسر كلماته بهذه الطريقة العجيبة؟ وكيف يستطيع هذا القاصّ أن يجعل من الأحداث التاريخية مسرحًا لدراسات نفسية واجتماعية عميقة؟ الحديث هذه المرة عن رواية ألف شمس ساطعة – A Thousand Splendid Suns التي استلهم عنوانها حسيني من شطر قصيدةٍ للشاعر الفارسي صائب تبريزي:
لا أحد يستطيع أن يعدّ الأقمار التي تشعّ على أسطعها
أو الألف شمس مشرقة التي تختبئ خلف جدرانها..
غير أنّها شموس مطلةٌ على تلالِ الحرب، والخسارة، ومشابك الحبّ والفراق. هنا الوجه الآخر لأفغانستان، البعيد كلّ البعد عما روج له الإعلام، وتداوله الجاهلون، وسوّد صورته الغرباء عنها.. هنا، غوصٌ في حروف جديدة، ورواية جديدة… فابقوا معنا!
خالد حسيني طبيب أمريكيّ أفغانيّ من مواليد سنة 1965م في العاصمةِ كابُل. قضى جزءًا من طفولته في مسقط رأسه، ثمّ تنقل إلى إيران وباريس، وصولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحكم عمل والده في السَّفارة.
كانت رواية “عداء الطائرة الورقية” هي أولى ما كتب على الإطلاق، وقد حققت نجاحًا باهرًا جعلها في مقدمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا لمدة 4 أسابيع. تلتها رواية ألف شمس ساطعة التي صدرت سنة 2007 والتي قالت عنها صحيفة واشنطن بوست – Washington Post: “فقط في حالِ التَّساؤُلِ إن كانت هذه الرواية بجودة عدّاء الطائرة الورقية، ها هو الجواب: لا، إنّها أفضل”؛ لتتوج بذلك بلقب الأكثر مبيعًا لمدة 21 أسبوعًا.
لم يكتب حسيني باللغة الإنجليزية عبثًا، فقد كان الهدف أن يوصل للمجتمع الأمريكي الذي نشأ فيه رسالَةً توضيحية عن الوجه الآخر لأفغانستان، وحقيقة مجتمعها، وينجح في إفهامهم بأنّ كل ما يحدث فيها هو نتاجٌ لصراعات خارجيّةٍ أجنبية لا تمتّ للشعب بصله. لكنّه إلى جانب اعتماده للغة عالمية، فقد أتقن استعمالها من خلال دقّة وصفه، وسبك عباراته، وعمق معانيه، الأمر الذي جعل صحيفة Atlanta Journal تكتبُ قائلةً:
روايةٌ تترُكُ القارِئَ متعجبًّا، كيف يستطيع هذا القاصُّ مرّة ثانيةً أن يُحوّل الأحداث التاريخيّة في بلدٍ معاصرٍ إلى دراما شخصية عميقة… ولا تُنسى.
لينجح في تعريف ملايين القُرَّاء الأمريكيين ومن شعوب أخرى في العالم بقضية أفغانستان، وتصوير مجتمعها، وآفات انقاساماتها. فنجده يتطرق عمدًا إلى زوايا مختلفةٍ من أفغانستان، إذ أشار إلى الجانب الثقافي لها من خلال الحديث المجسّد في شخصية الأستاذ “بابي” عن شعر “نظامي” الذي لقب بالنسخة الفارسية لروميو وجولييت، وشعر “أوستاد خليل الله خليلي”، وشعر “جافي” الأفغاني الذي حيكت حوله الكثير من الأساطير بفضل براعته.
على غرار رحلته المدرسية مع الأطفال إلى مدينة شاهير إي زوك أو ” المدينة الحمراء” والتي كانت عبارة عن حصنٍ منيع ثمّ دمر من طرف التتار.
إضافةً إلى الإشارة إلى تمثال بوذا في أسوار مدينة بوميان الذي كان معلمًا أثريًّا شديد الأهمية في البلاد، وإلى الجانب السياسي الذي صوّر حقبًا مهمّةً مرّت على البلاد، والتي سنكتشفها معًا على طول المقال.
اقرأ أيضًا:
تحوي الرواية جانبين بارزين، أولهما: الحرب، والثاني: الحب. وعن الأوّل يقول مقطعٌ من الرواية على لسان الأستاذ “بابي”:
وتلك يا أصدقائي الشباب قصة بلدنا: غازي بعد آخر، مقدونيون، ساسانيون، عرب، تتار، والآن سوفييت، ولكنّنا كتلك الأسوار في الأعلى، صحيحٌ أنّها منظمة ولا شيء جميل في النّظر إليها، لكنها ما زالت واقفة.
تاريخٌ مرير مشبّعٌ بحروبٍ أهلية وتدخلات أجنبية، لعلّ أبرز عوامله موقع أفغانستان الاستراتيجي في وسط آسيا، ومرور طريق الحرير التجاريّ الذي طالما كان محلّ صراعٍ عليها.
تستهلّ الرواية أحداثها من عام 1959 التي كانت فترة حكم الملك زاهرشاه الذي حكم لمدة 26 سنة عرفت خلالها البلاد فترة تشييد وعمران واستقرار اقتصاديّ إلى أن تمّ الانقلاب عليه سنة 1973 من طرف محمّد داود خان عقب اتهامات بالفساد، فأنهى النظام الملكيّ وحكم حتى سنة 1978.
خلال هذه الفترة، ازدادت قوة الحزب الشعبي الأفغاني الذي كان متبنيًّا لأفكار ماركسية، ومع تضييق محمد داوود خان النطاق على أحزاب المعارضة، نجح الحزب الشيوعي بعد توحيد صفوفه في الانقلاب على داوود خان وإعدامه، واستلم زمام الأمور، وباشر في سنّ إصلاحات وقوانين ماركسية مسّت جميع جوانب الحياة.
هذا الأمر كان مخالفًا لطبيعة المجتمع الأفغانيّ المتعوّد على عاداتٍ وتقاليد أصيلة، ومع شدّة وطأة الحزب واعتقاله لكلّ من يخالفه، انطلقت شرارة الحرب الأهلية في صيف 1978 في منطقة نورستان بين المجاهدين والحكومة، لتبدأ بعدها المأساة التي لم تنتهِ إلى يومنا هذا.
استعانت الحكومة في أفغانستان بالاتحاد السوفييتي بعد أن تمّ توقيع معاهدة صداقة تقضي بإمكانية تدخل الاتحاد السوفييتي في حالة طلب أفغانستان، وتزامن كل هذا مع دعم الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الفصول المعارضة، علاوة على صراع دائم بين الجهتين فيما يعرف بالحرب الباردة.
في 27 ديسمبر 1979 دخل الاتحاد السوفييتي الأراضي الأفغانية بحجة مساعدة المضرورين، وإنشاء المعالم الحضارية، واندلعت حرب العشرة أعوام بينه وبين المجاهدين الذين أرادوا إخراجه من الأراضي الأفغانية.
عرفت البلاد بذلك فترةً طويلةً من القتل والتهجير والجهل والفقر والجوع، ولم تسترح فكأنما ورّث الاتحاد السوفييتي البلاد المشلولة فريسة إلى غيره.
حكمت حركة طالبان بقبضة من حديد بدايةً من سنة 1989، ثمّ بدأت الحرب بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2001 تحت مسمّى محاربة الإرهاب ونظام القاعدة.
كل ذلك عبّر عنه خالد حسيني بطرق مختلفة في روايته ألف شمس ساطعة.
من غيرٍ حرق للأحداث ولا سرقة لفرصة قراءتكم لها، فإنّ رواية ألف شمس ساطعة تنتقل بين إطارين زمانيين ومكانيين أساسيين، أمّا بطلة الإطار الأوّل فهي مريم، ابنة الحرام التي اكتسبت هذا اللقب من غير رغبة منها ومن دون ذنبٍ لها.
أمَّا بطلة الإطار الثاني فهي ليلى فتاةٌ من شعب الطاجيك الذي يمثل أقلية عرقية في أفغانستان، والتي تقع في حبّ جارهم طارق المنتمي لقبيلة “الباشتون” أكثر القبائل انتشارًا ونفوذًا في البلد.
يصلُنا الكاتب في زاوية من الزوايا إلى دمجٍ بين هذين الإطارين، في نقطة التقاء واحدة، عن طريق جمع قدر مريم بقدر ليلى وطارق وإيضاح أوجه كثيرة في الاختلاف والاشتراك بين كلا الطرفين.
وقد أرادَ بحبكته تلك أن يجذب انتباهنا نحو خلاصةٍ واحدة:
عندما يتعلق الأمر بالحب والحرب، فكلّ شيءٍ يكون متوقعًا، إذ بإمكان الحياة أن تأخذنا إلى سبيلٍ لم نتخيله من قبل، كما بإمكانها أن تُبعدنا عن أكثر المسارات قربًا منَّا.
وممّا عالجته الرواية كذلك:
لا زلنا في مجتمعاتٍ تلوم المرأة على جميع الأخطاء وتُحمّلها مسؤوليتها بشكلٍ قاسٍ ومخزي. بكلّ بساطة: يمكن للرّجل أن يخطئ، لأنّ العارَ حتمًا سيعود على المرأة.
تقول نانا أمّ مريم لابنتها:
ابنتي، هل تعرفين ماذا قال لزوجاته ليدافع عن نفسه؟ لقد قال لهن إني عرضت نفسي عليه وإنها كانت غلطتي. ابنتي أترين؟! هذا ما يعنيه أن تكوني امرأة في هذا العالم.
غير أنّ أكثر من أن يقع اللّوم على المرأة هو أن يقع على الطفل الذي لا ذنب له. عاشت مريم طوال حياتها تُحاول النفور من لقب “ابنة حرام”، عاشت طوال حياتها تبحث عن القبول.
فقد كان هدف الكاتب أن يقرّب القارئ الأجنبي بأفغانستان: البلد الذي -ولكثرة الحروب فيه- ظنّوا أنه لا يملك عناصر ثقافة ولا عادات أصيلة ولا تقاليد.
يأخذنا حسيني بذلك إلى قلب البلاد، إلى طبق “ديل” و”البورالي” التقليديين، ورمزية “شجر الدراق” واختلاف اللهجات بين سكان البلاد نظرًا لاختلاف خلفياتهم، من “الباشتون” السنة إلى “الهازارا” الشيعة، إلى “الطاجيك” الذين ينتمون إلى الشعوب الآرية و”الأوزبك” و”التركمان” ذوي الأصل التركي.
إضافةً إلى الأجواء الرمضانية في كابول، وطريقة اللباس الرّسمي المعروف بالتشابان، وكيفية الحديث والمشي، والعقليات البسيطة المنتشرة بين عامة النّاس.
إذ سلّط حسيني الضوء على مظاهر كليهما، وتحديدًا عندما أجرى المقارنة بين كابول التي كان نساؤها يرتدن الجامعات، ويضعن الحجاب دون تغطية، وبين المدن الأخرى كهيرات والتي يمنع نساؤها من الدراسة، ويجبرن على ارتداء البرقع الأفغانيّ، ويتم تزويجهنّ مبكّرًّا وقصرًا.
كما سلّط الضوء على السادية الذكورية مجسّدة في شخصية رشيد شديد العنف مع زوجتيه، والذي ما يبرح يهينهما ويحتقرهما ويتفنن في ضربهما، على عكس الأستاذ بابي الذي كان يقدر زوجته ويحترمها.
فهذا الصراع الحاصل الذي نجده دومًا بين الطبقات المثقفة، والأخرى الأكثر تقديسًا للعادات والتقاليد، لم يُجرِه حسيني من خلال قضية المرأة فحسب، بل من خلال جميع مظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة.
ينقلها حسيني بكلّ ما يرافقها من خسارةٍ وألمٍ وهدم ودمار وحزن وفقد، ثمّ ينتقل إلى أبعد من ذلك ليجعلها جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفغان.
كلّ ما يعرفه هؤلاء هو الحرب! لقد تعلموا أن يمشوا وزجاجة حليب بيد، وسلاح بالأخرى.
هذه الحرب التي جعلت المستشفيات في حالة مزرية، وأودت بحتف الكثيرين، واضطرّت المواطنين إلى إدخال أولادهم إلى مدارس خاصة بسبب عدم امتلاكهم لما يطعمونه به، وشرد كثيرين آخرين، واغتصبت نساءٌ، وهدّمت أراضٍ وبنايات.
شخصيًّا، ورغم معالجة رواية ألف شمس ساطعة لكثير من المواضيع غير أني أرى بأنّ الصراعات الطبقية والعرقية بين السكان من خلفيات مختلفة هو الذي يودي في النهاية بالوطن ويؤدي إلى تقسيمه، فكلّ طرف يرى بأن له الحق في الامتلاك والانفراد بهذه البلاد، وكل قبيلة ترى أنّها أفضل وأسمى من غيرها.
هذه الصراعات هي التي تشغل حيّزًا كبيرًا في ثنائيتي الحب والحرب الموجودة في الرواية، فتسمح للحرب بالحدوث، وتمنع الحب من ذلك، في حين أن الرؤية التي يجب تبنيها هي كما جاء في الرواية على لسان الأستاذ بابي:
بالنسبة لي إنّ ذلك هراء! وأخطر هراءٍ على الإطلاق! كل هذا الكلام عن أنّني من الطاجيك، وأنك من الباشتون وأنه من الهازارا، وأنها من الأوزبك… كلنا أفغانيون، وهذا كل ما يهم.
كلنا أفغانيّون، وهذا ما يهمّ!
لك أيضًا:
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّة واحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.
2 د
ظلّ مصدر نهر النيل لغزاً لآلاف السنين.
لنهر النيل مصدران رئيسيان: النيل الأزرق من إثيوبيا والنيل الأبيض من البحيرات الأفريقية الكبرى وما وراءها.
حاولت العديد من الحضارات البحث عن مصدر النيل، لكن نظام النهر المعقّد يجعل من الصعب تحديد أصل واحد.
يعتبر نهر النّيل من أطول الأنهار في العالم وأحد أهم الأنهار في مصر والمنطقة العربية. ومنذ القدم، كان مصدر المياه الذي ينبعث منه النّيل يثير اهتمام المصريّين القدماء، وحتى الآن لا يزال هذا السؤال غامضاً ولا يحمل إجابة واضحة. على الرّغم من التقدّم التكنولوجي والمعرفة الجيوفيزيائية، لا يزال أصل النّيل لغزاً حتّى يومنا هذا.
في حين أنّ الإجابة البسيطة هي أنّ للنيل مصدرين رئيسيّين -النّيل الأزرق من إثيوبيا والنّيل الأبيض من البحيرات الأفريقيّة الكُبرى وما وراءها- فإنّ منشأ النّيل أكثر تعقيداً ممّا يبدو.
حاول الرّومان القدماء العثور على منبع النّيل، وبمساعدة المرشدين الإثيوبيين، توجّهوا عبر إفريقيا على طول نهر النيل إلى المجهول. على الرغم من أنّهم وصلوا إلى كتلة كبيرة من المياه كانوا يعتقدون أنّها المصدر، إلا أنّهم فشلوا في النّهاية في حلّ اللغز.
قبل الرّومان، حرص المصريّون القدماء معرفة أصل النّيل لأسباب ليس أقلّها أنّ حضارتهم كانت تعتمد على مياهه لتغذية ترابهم وتكون بمثابة طريق مواصلات. فتتبّعوا النهر حتّى الخرطوم في السّودان، واعتقدوا أنّ النّيل الأزرق من بحيرة تانا، إثيوبيا، هو المصدر. وقد كانت رؤية النيل الأزرق على المسار الصحيح، ولكن لا يوجد دليل على أنّ المصريين القدماء اكتشفوا القطعة الرئيسية الأخرى في هذا اللغز؛ النيل الأبيض.
واليوم، تمّ الاتّفاق على أنّ للنيل مصدرين: النّيل الأزرق والنّيل الأبيض، يلتقيان في العاصمة السّودانية الخرطوم قبل أن يتّجه شمالاً إلى مصر. يظهر النّيل الأزرق من الشّرق في بحيرة تانا الإثيوبيّة، بينما يظهر النّيل الأبيض من حول بحيرة فيكتوريا يخرج من جينجا، أوغندا. ومع ذلك، حتى هذه المصادر هي أكثر تعقيداً ممّا تبدو عليه لأول مرة.
يوضّح المغامر الشهير السير كريستوفر أونداتجي أنّ بحيرة فيكتوريا نفسها عبارة عن خزّان تغذّيها أنهار أخرى، وأنّ النّيل الأبيض لا يتدفّق مباشرة من بحيرة ألبرت ولكن من نهر كاجيرا ونهر سيمليكي، اللّذان ينبعان من جبال روينزوري في الجمهورية الكونغو الديمقراطية. في نهاية المطاف، كما يجادل، يمكن تتبّع النّيل الأبيض مباشرة إلى نهر كاجيرا ونهر سيمليكي.
في الختام، ليس لنهر النّيل مصدر واحد، بل يتغذّى من خلال نظام معقّد من الأنهار والمسطّحات المائية الأخرى. في حين أنّ الفكرة اللّطيفة القائلة بإمكانيّة تحديد المصدر بدقّة على الخريطة هي فكرة جذابة، إلّا أنّ الحقيقة نادراً ما تكون بهذه البساطة.
حتى اليوم، لا يزال مصدر النيل لغزاً يثير إعجاب النّاس في جميع أنحاء العالم.
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّة واحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.