أمل عرفة وشكران مرتجى وديمة قندلفت.. نساء شخّصن الجرأة والظلم في مسلسلات البيئة الشامية
8 د
لا تكتمل مائدة رمضان الدرامية من غير مسلسلات البيئة الشامية. والتي أضحت منذ سنوات مضت، طقسًا رمضانيًا لا يمكن الاستغناء عنه. ونظرًا للشعبية المكتسبة عربيًا، نجد هذا النمط بالتحديد من الدراما السورية، معززًا ومكرمًا عبر الفضائيات العربية، حيث لا تتوانى عن شراء هذا المنتج الدرامي، وإدارجه ضمن الخطة البرامجية. فيمكن الجزم أن المشاهد العربي يطالب بهذه النوعية من الأعمال، أكثر من المشاهد السوري الذي مل منها إلى حدٍ ما. لذا صار لزامًا على شركات الإنتاج تقديمها سنويًا، كون احتمال الخسارة المادية هنا معدومة.
لكن يُعاب على مسلسلات البيئة الشامية من قبل النقاد والجمهور السوري العريض، بأنها تشوه صورة المجتمع الدمشقي، وتقدمه على غير حقيقته، سواء اجتماعيًا، أوسياسيًا، أو حتى اقتصاديًا، ومهما اختلفت الحقبة التاريخية التي يطرح نفسه بها، سواء في عهد الاحتلال الفرنسي، أو العثماني، وغيرها. أما المشتغلين في هذه النوعية من الأعمال، فيرونها مجرد دراما اجتماعية بقالب فانتازي، تتناول حارات الشام بجماليات بيوتها العتيقة وأصالة أهلها القدماء، من خلال حكايا شعبية متخيلة ضمن قالب يطغى عليه عنصر الإثارة، لهدف المتعة فقط.
أيضًا المرأة السورية الشامية، تم تنميطها بصورة بشعة، حيث عوملت على أنها ناقصة عقلٍ ودين، والله تعالى خلقها لخدمة أهلها، ثم زوجها (سيد راسها) الذي عليها طاعته والانصياع لأوامره وأن تقول له -على الطالعة والنازلة- "أمرك ابن عمي".
طبعًا لا يمكن إنكار وجود بعض النماذج الحقيقية مما قُدم، حيث ما زالت تلك العقلية بمفاهيمها الرثة مستمرة لوقتنا هذا، مع تغير المصطلحات والأسلوب، لكنها ليست الكفة المائلة من الميزان. فالتاريخ والحضارة يشهدان، على عراقة السوري وانفتاحه فكريًا، وغناه الاجتماعي والحضاري والديني.
أعلم أيها القارئ العزيز، أنك سئمت الحديث والتكرار فيه مع كل موسم رمضاني جديد، لكن علينا ذكره والكتابة عنه، حتى تمله شركات الإنتاج، وتحاول التطوير في قصصها وابتكار أفكار جديدة، تخالف ما عهدناه. ربما في رمضان 2023، لمسنا شيئًا من التغيير في المواضيع وفي طريقة الطرح، ونسف بعض الأفكار المغلوطة التي زرعها في عقولنا "باب الحارة" كمثال، وما كان يفعله رجاله ببناتهم إذا ظنوا أنهم فعلوا العيب (يشختهم عالبلوعة). تأثير هذه السلسلة الشهيرة باقية لتاريخه، حيث إن رواد مواقع التواصل الاجتماعي يتداولون باستمرار، المقطع الذي حصلت فيه "سعاد خانم على الطلاق من ابن عمها "أبو عصام"، لأنها تجرأت وقالت له (فشرت).
ولعل ذكورية تلك الأعمال ممتدة لعقود، ليس من ناحية الفكر المطروح فقط، بل أيضًا من خلال الأدوار البطولية التي تُمنح للرجل الممثل على حساب المرأة الممثلة، في الشامية وغيرها من أنماط الدراما السورية. لكن في مسلسلات 2023، شاهدنا أن أدوار النساء كانت الند للرجل في أكثر من عمل، تجرأت على مواجهته والوقوف في وجهه، وكان حضورها وتأثيرها في الحدث يوازي الرجل، ومن أركان الحكاية الأساسية، وليست عنصرًا مكملًا لبطولات الرجل، وإن غلبت مساحة الرجل قليلًا، مثل: زقاق الجن، ومربى العز، وحارة القبة.
في هذا المقال سنتحدث عن أفضل 4 أدوار نسائية، في دراما البيئة الشامية لهذا العام، والتي لها أثرها في الحدوتة، وصداها عند المتلقي العربي.. هيا لنبدأ...
أمل عرفة... حارة القبة ٣
لا تحفل الممثلة "أمل عرفة" بعدد المشاهد التي ستظهر من خلالها في أي عملٍ فني، ما يشغل بالها هو الدور الجيد والجديد، والذي يمنحها فرصة اختبار أدواتها الفنية، وتجريب شيء لم تختبره بعد، شخصية جديدة تدفعها للأمام، وتسطر بواسطتها نجاحًا باهرًا يضاف لأرشيفها الذهبي.
على الرغم من أن المسلسل الرمضاني "حارة القبة" (رشا شربتجي /أسامة كوكش) بموسمه الثالث، إلا أن "عرفة" من الممثلين الذين انضموا أخيرًا للعمل. هي لم تأتِ بديلًا عن ممثلة أخرى، بل دورها جديد كليًا على العمل، حتى إن شخصية إخلاص كتبت خصيصًا لها (حسب ما صرحت).
حارة القبة يصور لنا الصراعات الاجتماعية والإنسانية في حقبة السفر برلك، ونزاع الخير والشر بين البشر.
إخلاص هي شقيقة "أبو العز هاشم الحبوباتي" (عباس النوري)، تعود مع زوجها "صياح" (فراس ابراهيم) إلى الحارة بعد غياب 20 عامًا عن أهلها وحارتها، بهدف البحث عن جرة الذهب المدفونة في منزلهم. لكن علاقة الزوجين ليست على خير حال، ونتيجة الظلم الذي تواجهه من قبل صياح، تقرر إخلاص التزام الصمت، وادعاء الخَرَس.
يمكن التأكيد على أن أمل عرفة قدمت أداءً عاليًا، أنصف حضورها هذا الموسم، أداءً يليق بعودتها بعد ابتعاد لفترة عن المنافسة الرمضانية. إخلاص التي تحاول طيلة الوقت النهوض من تحت الركام، ركام الذل والظلم اللذين تراكما فوق جسدها، وأثقلا روحها. عذاب إخلاص وقهرها لا تقوى أي ممثلة على تجسيدهما، الدور بحاجة إلى ممثلة موهوبة وأكاديمية، مدركة للغة الجسد وعارفة أهمية تطويعها لصالح الشخصية، ممثلة تتصرف بذكاء مع أدواتها، خاصةً أن لدينا شخصية لا تتحدث بحوارٍ منطوق في عدد كبير من المشاهد. حيث كان الصمت سيد المشاهد وملك الحوار. عرفت كيف تستنطق الحوار بعينيها اللتين اختزلتا كل خوف، وكل صرخة ترجمها جسدها قبل أن تخرج منها، وكل فعلٍ لا إنساني بحقها.
عرفت أمل عرفة كيف تستحوذ على عين المشاهد، وتجعله يترقبها بشوقٍ مفرط، في مسلسل حارة القبة، وأيضًا مسلسل "مربى العز" عملها الثاني في هذا الموسم مع المخرجة "رشا شربتجي" التي تجيد قراءة موهبتها. لذلك لا يمكننا إلا التعريج ولو قليلًا على شخصية أمل في مسلسل "Mbc"، وتسليط الضوء على "ملكة" المرأة المرحة المشاغبة، والثرثارة والذكية والتي تأخذ حقها بيدها، النقيضة لإخلاص المسكينة. وما يجمعهما هو ممثلة واحدة، قادرة على التمايز عبر شخصيتين في البيئة الشامية، مختلفتين في التركيبة الدرامية والأفعال الإنسانية، والأهم أن لكل واحدة لغتها وأدواتها الخاصة.
شكران مرتجى... زقاق الجن
تعدّ الممثلة "شكران مرتجى" من أكثر الممثلات اللواتي تواجدن في أعمال البيئة الشامية، نجحت بأغلبها وحفرت، وقلة قليلة منها مر مرور الكرام، كدورها في مسلسل "أهل الراية"، وهي تشهد على ذلك. فكل ممثل تصادفه هذه الحالة، ولا استثناءاتٍ لأحد.
أما العلامة الفارقة التي سجلتها ضمن مسيرتها الفنية، فكانت من خلال مسلسل "وردة شامية"، العمل الذي زاد من رصيدها الجماهيري، وبلور خصوصيتها في مهنة الخلق والابتكار.
وفي الموسم الرمضاني تطل علينا في مسلسل "زقاق الجن" (تامر إسحاق/محمد العاص)، العمل الذي تجري أحداثه في القرن التاسع عشر، ويروي حكاية حارة دمشقية يتعرض أطفالها للاختطاف، ومن ثم القتل داخل بساتين الجن. الأمر الذي يقلق أهالي الحارة ويثير سخطهم، خصوصًا أن عدوهم الذي يتربص بهم مجهول بالنسبة لهم.
في الحكاية مرتجى هي "خولة أم تيسير"، زوجة أبي تيسير (الحاضر الغائب شادي زيدان)، واللذين يعيشان مع أبنائهما تحت رحمة كبير العائلة "أبو نذير" (أيمن زيدان) القاسي المتسلط.
سبق وأن كانت الأم، وعرفت ماهية هذا الدور والدفء الذي يمنحه شعور الأمومة، وتأثيره على أدائها كممثلة. لكن الحكاية هنا مختلفة بعض الشيء، فأبناؤها هم من الشباب، أي فئة عمرية جديدة عليها، لا تشبه مراحل الطفولة والمراهقة، فلكل فئة خصوصيتها ومشاكلها. ومع وجود جد جائر، كل الاستبداد الذي تجابهه خولة هو مضاعف. يستغرب المشاهد كمية الإحساس المتدفق لدى شكران مع أدوار الأم، كونها لم تمارسه في الواقع، ولكن بعيدًا عن كليشيه "فاقد الشيء يعطيه" -أحيانًا- فإنّ إتقانَها لما تُجسد من أدوار ينم عن معرفة ووعي بالملكة الإبداعية الخاصة بها، والمصقولة بالدراسة والخبرة العملية، والشاهد عليها تعاقب السنين.
لا يمكن إنكار أن الممثل الجيد بحاجة لعوامل عديدة تتضافر فيما بينها، تحرّضه على الغوص والتقمص، وأقصد هنا النص والإخراج. شراكة شكران مرتجى والمخرج تامر إسحاق، صار يحسب لها حساب، فهو الحريص على منحها الورق الذي يتحرش بإبداعها، ويستفزه.
نجاحها بات أمرًا بديهيًا لأنها تشتغل بحب، وخولة في زقاق الجن أوجعها حب العائلة وأحرق قلبها.
ديمة قندلفت... العربجي
لأشهرٍ شغلت الممثلة "ديمة قندلفت" الناس، وكانت حديثهم في المجالس العامة ومواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك لدورها في مسلسل "ستيلتو"، العمل الذي حقق جماهيرية كبيرة. جسدت قندلفت شخصية "فلك معوض"، وهي امرأة ذكية ونرجسية، لديها هوس بالسيطرة على من حولها.
هذا الدور كان بمثابة اختصار لسنوات من الأعمال الدرامية، والبحث والجد، ونجومية كانت تبنى بخطى متأنية وثابتة. وبطبيعة الحال هي لم تكن بعيدة عنها، فهي نجمة مميزة في دراما بلدها. لكن مع هذا العمل كانت حصتها أكبر وأوفر مع النجاح واللمعان.
كثيرون توقعوا أن الدور الذي سيوازي قوة وعظمة فلك، لن يكون في القريب العاجل، سيأخذ وقتًا حتى يأتي. إلا أنها خالفت التوقعات، وجاءت مع شهر رمضان بشخصية الداية "بدور" ضمن مسلسل "العربجي" (سيف الدين سبيعي/عثمان جحا، مؤيد النابلسي)، قوية طبعًا فهي ممثلة متمكنة، إلا أن فلك معوض حكاية أخرى.
مسلسل "العربجي" فانتازيا شعبية شامية، تتطرق لصراعات عائلة النشواتي الذين يعملون في تجارة القمح والحبوب، وتحكم العائلات النافذة بخيرات الشام ومصائر العباد. ودائمًا ما يخرج من رحم الظلم بطل شعبي، يحاول رفض كل البطش الذي يمارس على الضعيف من قبل أصحاب المال والنفوذ.
دور الداية من الأدوار التي لا يمكن التخلي عنها في البيئة الشامية، فهي التي تساعد النساء الحوامل في عملية الولادة، وتهتم بالوالدة والمولود، وتمتلك أسرار الحارة، لكن مساحة الحضور تختلف حسب كل عمل وحكاية، وتأثيرها في أحداث الحدوتة.
الداية بدور في العربجي تتمتع بحيز كبير من التواجد في القصة، ما يتيح لديمة فرصة اللعب والاستعراض. بدور لديها ما يخفيه العباد، من أخبار ودسائس ومؤامرات، وتشارك غالبًا في صناعتها. تعيش صراعًا بين الخير والشر داخلها، في سعيها نحو السلطة والنفوذ.
من يشاهد ديمة قندلفت وهي تتبختر في الشخصية، يقف شاخصًا أمام حسنها، وسحر عينيها، وجمالية أدائها وطريقة تصرفها في الدور. تتدلل كياسمين أزهر في الربيع، لكن المظاهر خادعة، ليست كل الزهور رائحتها تعكس جمالها، فذاكرتها الملأى بالأحقاد غير آيلة للنسيان. متخبطة وحائرة بمشاعرها، تغلب الرأفة عليها أحيانًا، ولكن حب الذات والبروز، يرفض الانصياع.
من جديد تثبت ديمة قندلفت، أن الفن مسؤولية، وحرفة المبدعين. وأنت عزيزي القارئ: ما هو الدور النسائي الذي تريد إضافته لهذه القائمة؟
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.