كيف نُشفى من حبّ عمر الشريف؟
6 د
الفنان القدير عمر الشريف يفارق الحياة عن عمر يناهز الـ 83
أملك هذه القناعة الدائمة أن لبعض الفنانين دلالاً خاصاً على جماهيرهم مهما تجاوزوا الخطوط الحمراء، أو حدث وحاول البعض تشويه صورتهم عمداً، هناك مثل مصري يقول “حبيبك يبلعلك الزلط” ويبدو أنه حقيقي فعلاً مع البعض، تذكرت هذا وأنا أرى الناس يتجاوزون ببساطة موقف عمرو دياب من الثورة المصرية مثلاً رغم أنهم سلخوا باقي الفنانين نقداً، لم يهتم أحد بأمر الزواج السرّي لأنغام رغم أنهم أمطروا غيرها بوابل من النكت والسخرية، عشق جورج وسوف لا يزال كما هو رغم موقفه الثابت من الثورة السورية، في حين أن أصالة تُشتم يومياً على مواقع التواصل الإجتماعي.
ينطبق الشيء نفسه وبشدة على عمر الشريف، الذي رحل عن عالمنا منذ ساعات قليلة، والذي كان وسيظل أيقونة للوسامة العربية، والنجاح العربي، والنقطة المضيئة في تاريخ وصول فنان عربي للعالمية في وقت لم يسبقه أحد غيره إلى ذلك.
على الرغم من أن عمر الشريف ليس بالكامل، بل هو في الحقيقة أبعد ما يكون عن الكمال، إلا أنه يملك هذا المفتاح السحري الذي وصفه آل باتشينو بدقة في فيلم S1m0ne، عندما حاول إظهار بطلته المتخيلة بشكل مثير للإشمئزاز حتى يكرهها الجمهور، فما حدث إلا أن ازدادوا عشقاً لها.
عمر الشريف أيضاً، يملك ذات الميزة، الرجل الذي عاش حياته بالطول والعرض دون مراعاة لأقرب الأقربين إليه حتى مثل زوجته، لا يزال يُضرب به المثل في الحب والوفاء، لا لشيء سوى لكونه يملك هذا القبول والعشق الربّاني، ويملك في ذات الوقت، شجاعة الإعتراف.
شاهدت له من قبل برنامج حواري يحكي فيه قصته مع الإقلاع عن السجائر، وكيف أصابته أزمة شديدة في الليل حتى اعتقد أنه سيموت، وقتها دعا الله أن ينقذه ولم يمس سيجارة بعدها أبداً، وبمجرد أن تجاوز الأمر في الصباح، حتى أخلف وعده وعاد للتدخين، يحكي عمر الشريف القصة بسخرية من نفسه، هو يعلم جيداً أنه بشري وليس مقدساً أو رمزاً كاملاً كما نحب أن نراه، كما يعلم أن الله رحيم وأنه سيظل بشرياً مقصراً، هذه القصة تلخص فلسفته في الحياة، يحب عمر الدخول في التجربة، ويظل على يقين ببقاء الله إلى جواره، يظل طفلاً صغيراً عابثاً مندهشاً، لكنه في ذات الوقت يمنح نفسه السلام مع الكون ومع العالم، لهذا يتجاوز محبوه عن أخطاؤه، ويظلوا على حبهم له.
عمر الشريف الذي كان يمكن لدينه الأصلي أن يقف عائقاً أمام نجاحه في بلد مثل مصر، وهو الذي ولد باسم ميشيل ديمتري شلهوب لعائلة من أصول شامية، ليعلن إسلامه فيما بعد عندما قرر الزواج من فاتن حمامة، لم يسبب له هذا الانتقال بين الدينين شيئاً، فهو يملك هذه النظرة الفريدة للأديان، وهي التسامح المطلق مع الجميع، الله واحد فما الداعي إذن إلى التصنيف؟
يقول في سيرته الذاتية:
عندما أرى ما يحدث في العالم بين الديانات المختلفة، أشعر بالحزن والغضب من الصراعات التي قد تنتهي بالقتل والحروب، من المثير للسخرية ان يكون الدفاع عن الله بالقتل والتوحش، أنا أؤمن بالله وأؤمن بالأديان، لكن ما لا أفهمه، هو إصرار اليهود مثلاً على أنهم هم من سيدخلون الجنة والباقيين إلى الجحيم، نفس الشيء ينطبق على المسلمين والمسيحيين، من السخف أن نخصص عدل الله ونقتطعه بهذا الشكل.
ما أريد قوله، أن هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في وجداننا بهذا الشكل الأقرب للرموز، لا يموتون فعلاً، لهذا أجد نفسي اليوم عاجزة عن الحزن عليه، مثلما ضبطت نفسي عاجزة عن الحزن على فاتن حمامة، الإثنان يعيشان فعلاً في خيالي بلا مشاكل، فلما اعترف بذهابهما إذاً؟
لا أحب أيضاً ربط موت شخص بآخر، ولا أعتقد أن الشريف مات حزناً على فاتن فهو أصيب بمرض الزهايمر الذي يمنعه حتى من تذكّر حقيقة موتها، لكن هذه العلاقة المعقدة والفريدة بين الإثنين -فاتن وعمر- من حقها أن يأتي ذكرها كلما تحدثنا عن طرف منها، ربما تكون المرأة أكثر قدرة على تجاوز جرحها العاطفي، الأمر الذي سمح لها بتجاوز عمر الشريف والعيش بسعادة مع زوجها الذي بالتأكيد كان الأفضل والأكثر مثالية في عينيها..
لكن من قال أن كل العلاقات العاطفية يجب أن تكون مثالية؟ فالشريف الذي أخذ قراراً بالإنفصال لم يستطع التقرّب من امرأة أخرى سواها، وليظل وفياً بشكل أو بآخر للحب بصورته المجردة، رغم أنه بلا شك لم يترك هذاالأمر يعزله عن العالم، عاش عمر الشريف بالطول والعرض، أحب وارتبط بجميلات شهيرات يملكن كل شيء، لكنه ظل يرى هذه السيدة بصورة دائمة واحدة، وهي الحبّ الباقي الذي لم يتحول إلى كراهية أو حتى تجاهل وغضب.
كل ما سبق كان حديثاً عن عمر الشريف الإنسان، هذا الجزء الهام جداً في تاريخه، والذي يمنحه كل هذا القرب من محبيه بالفعل، لكننا لا يمكن أن نغفل في ذات الوقت، جانبه الفني العظيم، منذ مشاركته في فيلم صراع في الوادي مع يوسف شاهين وفاتن حمامة، إلى بدايته العالمية في فيلم Lawrence of Arabia مع المخرج ديفيد لين.
فاز عمر الشريف بجائزة الغولدن غلوب ثلاث مرات عن فئتي أفضل ممثل صاعد، وممثل مساعد في فيلم Lawrence of Arabia عام 1963، ثم فئة أفضل ممثل درامي عن فيلم Doctor Zhivago عام 1965.
كما رُشّح لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد عن فيلم Lawrence of Arabia، وفي العام 2004 تم منحه جائزة مشاهير فناني العالم العربي تقديراً لعطائه السينمائي خلال السنوات الماضية، وحاز أيضا في نفس العام جائزة سيزر لأفضل ممثل عن دوره في فيلم السيد إبراهيم وازهار القرآن لفرانسوا ديبرون. كما حصل على جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي عن مجمل أعماله.
دشّن عمر الشريف أسلوباً فريداً في التمثيل، يعتمد بالكامل على التلقائية والطبيعية، ربما لم يكن الأمر متقبلاً في بداية ظهوره، لكن ما ساعده عليه كان العمل مع مخرج عظيم مثل يوسف شاهين ينتهج ذات الأسلوب، الذي يميل للتعبير بالنظرات ولغة الجسد أكثر من مجرد سرد بعض الجمل القوية الحماسية، بعدها انتقل عمر الشريف سريعاً من شخصية الفارس الوسيم الرومانسي، إلى أدوار أكثر تعقيداً لا يمكن أن ننساها، مثلاً دوره في فيلم المواطن مصري، العمدة المستغل الذي يُمثّل كل فساد السلطة، والذي أتقنه الشريف بشدة، لينتقل من الجبروت على اهل القرية، إلى الهلع على مصير ابنه الوحيد، فلا تدري أتتعاطف معه أم تكرهه؟
في فيلم الأراجوز، عاد عمر الشريف بعد غياب 20 عاماً عن السينما المصرية، ليؤكّد على مكانته، محمد جاد الأراجوز البسيط الذي يعرّي الجميع، ويكشف عن فسادهم بكلماته الساخرة، يبدو أقرب لشخصية عمر الشريف نفسه، الذي لا يخجل حتى من كشف سلبياته كما ذكرنا.
هذا الرجل الأيقونة، الذي لا يمكن أن نكتفي من التأمّل في جمال عينيه، ونبرات صوته، وفي حكاياته الإنسانية المؤثرة، أو الفنية الملهمة، رحل عن عالمنا منذ بضع ساعات، لنتذكر آخر جملة كتبها في سيرة حياته:
كل لحظة تمر هي الأهم بالنسبة لي، وهذا ما ينبغي أن يكون، لكي تعيش جيداً في مثل عمري ينبغي عليك التركيز في اللحظة الحالية، لأنك لاتعرف إلى متى ستظل على قيد الحياة.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.