تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

فيلم حرقة.. تجربة تونسية لإعادة صياغة التاريخ وتغيير مصير الحرية!

فيلم حرقة-أراجيك فن
نهلة أحمد مصطفى
نهلة أحمد مصطفى

5 د

بعد حوالي أثني عشر عامًا، لا يغيب عن الأذهان تلك الشُعلة التي بدأت ثورات الربيع العربي، الحريق الذي نشب في أحد المواطنين التونسيين لينتشر بعدها في كل أرجاء البلاد.

لا أحد ينسى "محمد البوعزيزي" الذي أضرم النار بنفسه أمام مبنى البلدية احتجاجًا على الظلم الذي تعرض له.. فماذا لو أعدنا كتابة هذا التاريخ الحديث من جديد، بتفاصيل صغيرة مختلفة، وربما ليست مختلفة كثيرًا، هل حقًا ستختلف النهاية؟

فيديو يوتيوب

احتفاء عالمي

كانت الدورة الـ 75 لمهرجان "كان" السينمائي لعام 2022 هي البداية لسلسلة طويلة من المهرجانات السينمائية التي شارك فيها الفيلم التونسي "حرقة" للمخرج "لطفي ناثان". فبعد فوز بطله "آدم بيسة" بجائزة "أفضل أداء" داخل مسابقة "نظرة ما" في مهرجان كان، انطلق الفيلم في رحلة خلال العديد من المهرجانات الأخرى.

بداية بمهرجان "البحر الأحمر السينمائي الدولي" الذي تحصّل فيه "آدم" على ثانِ جوائزه بالإضافة إلى حصول "ناثان" على جائزة أفضل مخرج. ليشارك بعدها في مسابقة "الديسابورا" بمهرجان "الأقصر السينمائي للسينما الأفريقية" ويحصل على جائزة النيل الكبرى لأحسن فيلم (قناع توت عنخ آمون الذهبي).

ثم فاز بالجائزة الأولى في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي" الذي يُقام بـ "لوس آنجلوس" ومع مشاركته في جوائز النقاد للأفلام العربية التابعة لمركز السينما العربية، تحصل آدم بيسة على ثالث جوائزه، خلال وقت قصير جدًا تمكن الفيلم التونسي من حصد جميع تلك الجوائز من مهرجانات مرموقة، وما زالت تلك السلسلة قابلة للزيادة.. فما السبب وراء هذا الاحتفاء الشديد؟ ولماذا استطاع الفيلم الوصول إلى مشاعر جميع من شاهدوه؟


قصة فيلم "حرقة"

يختار المخرج "لطفي ناثان" بناء فيلمه الروائي الطويل "حرقة" مستلهمًا من قصة الشاب التونسي المعروف "محمد البوعزيزي" الذي أضرم النار بجسده عام 2011 احتجاجًا على مصادرة البلدية لعربة بيع الخضروات والفاكهة التي كانت مصدر رزقه الوحيد، والذي كان البداية لسلسلة من الاحتجاجات أشعلت لاحقًا الثورة التونسية.

وتدور أحداث "حرقة" في عالم شبيه بالقصة الأصلية، حول الشاب "علي" الذي يعمل في بيع الغاز المهرب في شوارع تونس. وتجبره الظروف على الاعتناء بأختيه الصغيرتين بعد وفاة والده وسفر أخيه ويتبدد حلمه، الذي كان يجمع له المال بشق الأنفس، بالهرب خارج البلاد.

ويجد نفسه فجأة عالقًا داخل دائرة مفرغة من محاولات للعيش بأدنى شكل آدمي، والتي تصطدم جميعها وتنهار مع أول مواجهة للواقع الذي يجبره على دفع ثمن معيشته. منذ بداية الفيلم ونحن نرى "علي" في معزل عن الجميع، إما في بيت مهجور كان قد اتخذه كمنزل له، أو بمفرده غارقًا في أفكاره، فقد خلق الفيلم سرديًا وبصريًا عالم منعزل يحيط بعلي.. تحكي فيه لنا أخته الصغيرة عنه وكأنها تعّلق على حدث ما يتخذ مكانًا خارج هذا العالم.

تحكي عن الغربة التي كان يشعر بها داخل بلده، عن أحلامه ورغبته في الفرار وعدم العودة مطلقًا، عن بعض ذكرياتها معه وعن خوفها الشديد مما قد يلحق به من أذى جراء تلك الأحلام.


الصورة السينمائية

أمًا من الناحية البصرية والتي كانت غنية للغاية، فنحن نرى "علي" من خلال لقطات مقربة للغاية على وجهه متجاهلة العالم من حوله في أغلب الأحيان، ترصده الكاميرا وهو حزين، وغاضب، وحالم، ومستسلم. وفي أحيان أخرى لقطات بعيدة له نراه فيها محاصرًا بين الجدران التي تضيق عليه من حوله، رغم أنف جميع محاولات النجاة.. لكنه دومًا بداخل إطار يحبسه بداخله.. سواء كان ملموسًا أو داخل عقله.

يركز الفيلم اهتمامه على الشخصية ويصور المدينة من خلالها، فنرى تونس بعيون علي، نرى قسوتها على وجهه وجسده المليئين بالشحم، وظُلمها في الطريقة التي تطرده فيها من جنتها فكلما حاول أن يتسلق الحفرة التي وقع فيه، يجد من يردمها أكثر فوق رأسه حتى كاد لا يرى شيئًا من حوله.. ونرى شوارعها في رحلته.. لكن ليست تلك الشوارع التي تستطيع تكوين ذكريات جميلة في أزقتها، وإنما تلك التي تضيق عليه فلا تتسع لخطواته ولا ترحب بها.

وقد ساعد أدآء "آدم بيسا" في نقل تلك المشاعر دون افتعال أو مبالغة.. خاصةً في تلك المشاهد التي كان الصمت فيها أهم من الكلام، فكان ما يقوله وجهه أكثر مما يتفوه به لسانه، وربما ساعدته ملامح وجهه الحادة في نقل الحالة النفسية والعصبية غير المتزنة لشخصية علي .


ماذا هنالك يشاهده الناس؟

قد يكون السؤال الذي يطرق الأذهان بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم هو لماذا أعاد "ناثان" من جديد قصة قديمة ونهايتها معروفة؟ ماذا هنالك ليشاهده الناس؟

لكن لعل هذا السؤال في ذاته هو الإجابة.. فالفيلم لا يحكي قصة "بو عزيزي" مجددًا. لكنه يحكي قصة أخرى تحدث على نفس الأرض بعد مرور حوالي أكثر من ١٠ سنوات على موت صاحب القصة الأصلية، تحمل بداخلها الكثير من التفاصيل المشابهة لواقع حدث من قبل، ويطرح تساؤلًا: هل سيجد هذا الشاب طريق الخلاص؟ هل تتسع له ولأمثاله تلك المدينة؟ أم أن التاريخ سيعيد نفسه وكأن شيئًا لم يكن؟

فشخصية علي تمر بما يشبه ما مر به بوعزيزي، عندما يقرر أحد الضباط أن يستولى علي كل ما يملكه بعدما رفض "علي" أن يدفع الرشوة التي كان يدفعها كل يوم رغمًا عنه ليتمكن من مواصلة بيع الغاز المٌهرب دون أن يتم التعرض له.

وعندما يقرر أن يشتكي هذا الضابط٫ لا يجد من يعيره انتباهه أو حتى من يبذل جهدًا بسيطًا ليستمع إليه. وعندما يفقد عقله بسبب عدم استطاعته لمواكبة المصائب التي تلاحقه من كل اتجاه، يتهمونه بالجنون ويرموقنه بنظرات تأكل كل ما تبقى بداخله من كرامة وعزة نفس.

وتكون إجابة السؤال حاضرة في تلك اللحظة، دون الحاجة للوصول إلى نهاية الأحداث، ويكون مشهد النهاية حين يسكب "علي" الغاز على نفسه قبل أن يضرم النار بجسده نهاية متوقعة لرحلة كانت منذ بدايتها وهي على وشك الاشتعال. لكن وللمفارقة.. لا أحد يلتفت هذه المرة.

فبينما تأكل النيران جسد "علي" أمام مبنى البلدية في مشهد مهيب ومرعب، يمر الناس من حوله وكأن شيئًا لا يحدث، وكأنهم اعتادوا هذا المشهد في حياتهم اليومية فأصبح لا يحرك فيهم أي خوف أو فزع.

ذو صلة

شاب آخر أشعل النار في نفسه، شاب آخر تخلص من حياته بعدما فقد الأمل فيها.. وشاب آخر أكلته "الحرقة" من داخله قبل حتى أن تأكل جسده من الخارج.. ولكن تستمر الحياة بلا توقف.. ويحمل كلا منهم حرقته الخاصة.

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة