شخصياتنا.. كيف تتشكل؟ وهل يمكن تغييرها؟
هذه الطفلة الهادئة أكثر من اللازم في الفصل، لا تتحدث أو تلعب أو تحدث الضوضاء كغيرها من الأطفال.. هل ستظل شخصية خجولة تتجنب الآخرين عندما تكبُر؟
وهذا الطفل المشاغب كثير الحركة الذي يفعل ما بوسعه حتى يلفت إليه الأنظار.. هل سيصبح أكثر هدوءً ورزانة في الكبر؟
يرى الخبراء التربويون أن كل طفل يولد ولديه ميول واهتمامات تختلف من طفل لآخر. ويذهبون أبعد من ذلك ويقولون أن شخصية الطفل التي تظهر عليه في مرحلة ما قبل المدرسة، ستظل معه مدى الحياة. المواقف والخبرات قد تغيّر منها قليلًا فقط، وتهذب وتشكل بعض السلوكيات، لكنها لا تغيّر الشخصية تمامًا.
تقول إحدى الدراسات التي نُشِرت عام 2010 أن شخصياتنا تظل كما هي منذ مرحلة الطفولة وحتى النضوج، وأظهرت نتائج الدراسة أن السمات الشخصية للأطفال في الصف الأول، هي مؤشر قوي لسلوكهم في المستقبل.
“نحن نظل نفس الشخص الذي كنا عليه في مرحلة الطفولة.” هذا ما يوضحه صاحب الدراسة كريستوفر نيف، ويتابع: وهنا تكمن أهمية فهم شخصية الطفل جيدًا لأنها تستمر معه عبر الزمن والمواقف”.
وبالرجوع لدارسة أُجريَت عام 1960 على حوالي 2400 طفل ما بين الصف الأول والسادس بهاواي؛ وتتبعت الدراسة 144 طفلاً من هؤلاء حتى بلوغهم الـ40 عامًا، وبمقارنة تقييمات المعلمين عن هؤلاء الأطفال وتطوّر شخصياتهم عبر الزمن؛ حدد الباحثون أربعة أنواع من الشخصيات، وهي: المتحدّث الجيد، والمتكيّف مع الظروف، والمندفع، والمقلل من نفسه.
كشفت الأبحاث أن الأطفال الذين تمتعوا بموهبة الحديث الجيد، كانوا أكثر ذكاءً وميلًا للتفكير وطلاقة الحديث والسيطرة على المواقف، في الكبر.
أما الأطفال الذين كانوا أقل طلاقة في الحديث، كبروا ليصبحوا أكثر اعتمادًا وطلبًا للنصيحة من الآخرين عند مواجهة المواقف الصعبة، وكانوا كذلك أشخاصًا خجولين.
والأطفال المتكيفين أصبحوا في مرحلة منتصف العمر أكثر مرحًا من غيرهم وتمتعوا بطلاقة الحديث والذكاء.
وهؤلاء الذين يقللون من أنفسهم، كبروا ليحملوا مع نفس الشخصية، صعوبة التكيّف مع المتغيرات، ورؤية أنفسهم بشكل سلبي، وأكثر خجلًا من أنفسهم ومن الآخرين، ودائمي الشعور بالذنب وعدم الإحساس بالأمان، حتى عندما كبروا.
وأصبح الطلاب المندفعين أكثر ميلًا للحديث بصوت عالي، ومشاركة مجموعة كبيرة من الاهتمامات، وكذلك طلاقة الحديث، وأقل خوفًا وترددًا، مقارنة بالأطفال الأقل اندفاعًا والذين أصبحوا أكثر خوفا وترددً، ويميلون لوضع مسافة بينهم وبين الآخرين.
هل تغيّرنا التجارب؟
توضح هذه الدراسة أنه في حين تتغير شخصياتنا مع الزمن والتجارب، لكنه ليس بالأمر السهل على الإطلاق.
يقول نيف:
“الشخصية هي جزءٌ منا، جزءٌ من تكويننا الحيوي. تجارب الحياة تؤثر عليها، لكننا لا نزال بحاجة لفهم شخصياتنا في الطفولة، لنفهم كيف سيكون سلوكنا في المستقبل. ومزيد من الأبحاث في المستقبل ستعرفنا إلى أي مدى يمكن لتجارب الحياة أن تغيّر شخصياتنا”.
وفي دراسة أخرى أجراها جاب ديسلين أستاذ علم النفس بجامعة هومبولت الألمانية، الأطفال الانطوائيين والأطفال الذين لا يستطيعون السيطرة على مشاعرهم، أخذوا وقتًا أطول لتنضج شخصياتهم ويستطيعون التكيّف مع أدوار الكبار، مثل العلاقات العاطفية والاندماج في بيئة العمل، والتي تتطلب مهارات اجتماعية تحتاج لوقت أطول كي يتقنونها مقارنة بالأطفال الآخرين.
لكن هذه الدراسة تعطي قدرًا كبيرًا من الأمل، فلا يهم كيف هي شخصية الطفل الصغير، فالحياة وتجارب العمل قادرة على تطوير شخصيته وتكييفها مع الواقع. يقول جينيسين:
“تُعلّمنا بيئة العمل المهارات الاجتماعية وأن نكون أقل عدوانية ونستطيع التحكّم في مشاعرنا. من خلال العمل يتعلّم المراهقون الانطوائيون أن العدوانية لن تحل مشاكلهم على الإطلاق”.
شيء واحد يظل غامضًا ولم تكشف عنه هذه الدراسة. هل تجارب الحياة تغيّر الشخصية أم تغيّر السلوك فقط، بمعنى أكثر وضوحًا الطفل الانطوائي، هل يتعلّم التعامل مع الآخرين عندما يكبر، لكنه يظل خجولًا في شخصيته الكامنة؟
يقول جيروم جاكان أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد أن هذا الطفل الانطوائي قد يتعلّم من المواقف والتجارب التعامل مع الناس ببراعة شديدة، ويصبح اجتماعيًا ماهراً جداً، لكن في داخله يظل انطوائيًا، بمعنى أنه يميل للعزلة ويفضّل البقاء وحده من حين لآخر أو تلك الهويات التي يستمتع بها بمفرده، أو لا يكون على راحته التامة إلا مع دائرة أصدقائه المقربين جدًا، لأن هذه هي شخصيته الحقيقية، بعكس الطفل الذي ولد بشخصية اجتماعية ويملّ سريعًا من الوحدة أو قد يتحدث عن أشياء تخصّ حياته الشخصية مع الغرباء ويجد ذلك أمرًا عاديًا.
اعتمد كاجان في دراسته على فحوصات لأدمغة الأطفال الذين كانوا خجولين في الصغر، ليجد أنها تعمل بطريقة مختلفة عن الأطفال الذين كانوا أكثر انفتاحًا، ما يعني أن هناك عوامل جينية تحدد شخصية كل منا.
لكن باحثين آخرين مثل ريبيكا شاينر، يعتقدون أن المواقف وخبرات الحياة منذ الطفولة تعدّل في بنية المخ وتغيّر من الشخصية تمامًا.
يقول كاجان أن الأطفال يستطيعون تمييز وضعهم الاجتماعي وسط زملائهم في الفصل والذي يؤثر على شخصياتهم كثيرًا. الأطفال الأغنياء يصبحون أكثر ثقة في أنفسهم، أما الفقراء فيكونون أكثر عدوانية.
بينما تقول ريبيكا أن هناك استقرار كبير في الشخصية مع سن الثالثة، لكن في نفس الوقت تظل تجارب الحياة تؤثر بقوة علينا حتى سن الـ50 عامًا.
الشخصية والتعليم..
الآباء والمعلمون بحاجة لفهم كيف تنشأ شخصية الطفل وتتغير مع المواقع. أن يكون الطفل انطوائَيا فلا يعني أنه لن ينجح في الحياة والتعامل مع الآخرين. هذا ما يؤكده دانيال هارت أستاذ علم النفس بجامعة روتجرز الأمريكية.
وهذا يعني أيضًا أن عليهم أن يقدّموا كل ما يساعد على تطوير شخصية الطفل من صغره والتأثير عليها تأثيرًا إيجابياً، وأن يراعوا الفروق الفردية بين كل طفل وآخر، والوقت الذي يحتاجه كل طفل للنمو والتعلّم.
الطفل الاجتماعي كثير الحركة والحديث لا يجب أن يوصف بأنه مشاغب، بل تُقدّم له الأنشطة والوسائل التعليمية التي تستغل طاقته في المسار السليم، كالرياضة والأنشطة التي تعتمد على الحديث أو مساعدة الآخرين. الطفل الانطوائي بحاجة لأن يتعلّم الاندماج شيئًا فشيئَا ولكن مع مراعاة حاجته للوقت واحتمال خوفه في البدء من الانفتاح على غيره.
الخُلاصة
لم يكتشف العلم بعد إذا كنا نولد بكامل شخصياتنا التي تظل معنا طول العمر أم لا. لكن مهما اختلف الباحثون حول الفرق بين الشخصية الأصلية والسلوك المكتسب، إلا أنهم اتفقوا على أن أي شخصية مهما كانت قابلة للتطوير والتغيير مع المواقف وخبرات الحياة.
هذا يعني أنه أيًا كانت الظروف التي نشأت فيها وشكلت شخصيتك، بإمكانك تطوير نفسك لتصبح الشخصية التي تريدها، وهذا يضع مسؤولية كبيرة على الآباء والمعلمين لأنهم أكبر عامل يشكل شخصية الطفل للأفضل أو الأسوأ.
المصادر | 2
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.