هل تأخذنا عبارة “الأفضل أجمل” إلى الحيز الذي يصبح فيه تعاطفنا مشروطًا؟ العلم يتحدث
6 د
مَن منّا لا يشعر باليأس حين يشاهد البطل الجذّاب في فيلمٍ ما يغرق مع سفينته العملاقة في المياه المتجمدة! أو مَن منّا لا يبتهج ويذرف الدموع في فيلمٍ آخر، حين تلتقي الأم بابنها الضائع بعد سنواتٍ من الفراق والعذاب! حسنًا، قد لا تتأثرون بالأفلام، إذًا مَن منّا لا يشعر بالألم والضيق حين نرى أناسٍ يتألمون نتيجة تعرضهم لحادث سيارة رهيب! ألا تحزنون وتتألمون! بالطبع، الإجابة بديهية؛ إذ أن التعاطف سمة تميزنا نحن البشر.
هذه القدرة على الإحساس بمشاعر الآخرين، بأن تضعوا أنفسكم مكان شخص آخر كمحاولة للشعور بما يشعر به، أو كمحاولةٍ لفهم وتحديد ما قد يشعر أو يفكر به، هو التعاطف أو “التقمص العاطفي” أو Empathy. وهو أمرٌ ضروري ومهم لنا كبشر، كجزءٍ من السلوك الاجتماعي الإيجابي، لأنّ فهم شعور الآخرين يمكّننا من الاستجابة بشكل مناسب للموقف، ويعزز صحة علاقاتنا الاجتماعية والعاطفية، كما أنّ زيادة التعاطف تؤدي إلى تعزيز السلوك المساعد والتعاون وتقلل الفعل العدوانيّ.
لكن ورغم ذلك، ألم تلاحظوا سابقًا أننا لا نبدي تعاطفًا مع جميع الناس بشكل متساوٍ! لا أقصد هنا اختلاف التعاطف مع أفراد عائلتك أكثر من جيرانك وغيرهم، وإنما بالنسبة لأشخاص غرباء تعرضوا لموقف مؤلم، فهل نتعاطف مع الأشخاص الأجمل شكلًا أكثر من الأقل جمالًا؟ لنعد إلى حادث السيارة السابق، هل سبق وشعرتم أنّ الناس يتعاطفون مع أحد ضحايا الحادث بشكل أكبر من باقي الضحايا فقط لأنه أجمل شكلًا! إن كنتم قد تساءلتم كذلك قبلًا، أو إن كنا قد أثرنا فضولكم، فتابعوا قراءة المقال لنرَ ما رأي العلم في ذلك.
كيف نتعاطف مع ألم الآخرين، وهل نتعاطف مع الأشخاص الأجمل شكلًا أكثر من الأقل جمالًا؟
يقول الباحثون أنّك عندما تتعاطف مع أشخاص يتألمون، فإنّ ذلك يرتبط بحصول نشاط في أجزاء معينة من القشرة المخية في الدماغ لديك، وهي الفص الجزيري والذي يُعتقد أنها تساهم في الوعي الذاتي من خلال دمج المعلومات الحسية، والقشرة الحزامية الأمامية والتي ترتبط باتخاذ القرار والتحكم في الانفعالات.
وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ التعاطف مع الآخرين، أو هذه القدرة على الشعور بألم الآخرين، تقع تحت نطاق سيطرتنا وإرادتنا بشكلٍ مشابه لسمة اللطف أو الإيثار، إلا أنّ العديد من الأسس العصبية والوراثية تقع وراء هذا الشعور الإنساني العميق، فالناس مختلفون في مدى تعاطفهم مع الآخرين، وقد يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب، إذ تلعب العوامل الثقافية كالتنشئة الاجتماعية والتعليم دورًا كبيرًا في قدرتنا على التعاطف.
وكذلك بعض العوامل البيولوجية مثل التأثيرات الهرمونية، وعلى سبيل المثال، فقد وُجِد أنّ المستويات المنخفضة من هرمون الأوكسيتوسين قد تكون مسؤولة عن انخفاض التعاطف، كما أظهرت دراساتٌ أُخرى أنّ الضرر الذي يلحق بمناطق معينة من الدماغ يمكن أن يتسبب في انخفاض التعاطف أو انعدامه على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك، قد يرجع جزء من هذا الاختلاف في التعاطف إلى عوامل وراثية بناءً على بعض الدراسات الجديدة، حيث وجد العلماء أنّ 10% من الاختلاف في القدرة على التعاطف بين الناس تعود إلى الجينات.
والآن، لنعد إلى السؤال الأساسي، هل نتعاطف مع الأشخاص الأجمل شكلًا أكثر من الأقل جمالًا؟
حاول العلماء الإجابة عن هذا السؤال من خلال تنفيذ العديد من التجارب، والإجابة في أغلب الأحيان كانت نعم، نحن نبدي تعاطفًا أكبر مع الأشخاص الأجمل شكلًا والأكثر جاذبية.
إذ بينت إحدى الأبحاث والتي درست تأثير جاذبية الوجه على التعاطف، أنّ الجاذبية الجسدية تسهّل حصول الاستجابات التعاطفية، وقد لوحظ أنّ الاستجابة التعاطفية للألم عند الأشخاص الأكثر جاذبية كانت أكبر مقارنةً بالتعاطف مع ألم الأشخاص الأقل جاذبية. كما أظهرت أنّ الأفراد يكونون أكثر عرضة لتقليد سلوكيات الإناث والذكور الأكثر جاذبية، مقارنةً بالإناث والذكور الأقل جاذبية. والأهم من ذلك، أنّ هذا التقليد يتم دون أي اتصال مباشر مع الشخص المستهدف، ودون أيّ وعي بتأثير الجاذبية الجسدية على التقليد.
تشابهت النتائج السابقة مع نتائج بحث آخر، حيث وجد الباحثون أنّ التعبير عن التعاطف من خلال التقليد يتأثر بجاذبية الأشخاص. بكلماتٍ مبسّطة، يبدي الناس تعاطفًا أكبر مع الأشخاص الأكثر جاذبية مقارنةً مع الأشخاص الأقل جاذبية، ويميلون على وجه التحديد إلى تقليد سلوكيات الشخص الأكثر جاذبية.
وفي دراسةٍ أُخرى، بحثت عن العلاقة بين التعاطف مع الألم ومع جاذبية الآخرين، والتي قامت برصد ردود أفعال 35 مشاركًا على صورٍ تُظهِر وجوهًا متفاوتة الجاذبية، عُرضت عليهم في حالتين، إحداها تظهر الوجوه في حالة مؤلمة، والأُخرى في حالة غير مؤلمة.
ثم طُلِب من المشاركين في المرحلة الأولى تحكيم الصور فيما إذا كانت انفعالات الوجه تدل على الألم أم لا، وبهذه الطريقة تكون معالجة آلام الآخرين تتم بشكل صريح، بينما معالجة جاذبية الوجه تكون بشكل ضمني. وفي المرحلة التالية، طُلِب من المشاركين الحكم على الجاذبية وتقييم الصور المعروضة فيما إذا كانت الوجه جذابًا أم لا، وبهذه المرحلة تتم معالجة جاذبية الوجوه بشكل صريح، بينما تتم معالجة الألم بشكل ضمني.
أظهرت النتائج أنّ معالجة جاذبية الوجوه عززت من التعاطف الضمني مع الألم في حالة الوجوه الأكثر جاذبية، بما معناه أن التعاطف الضمني مع الألم يكون أكبر في حالة الصور الأكثر جاذبية مقارنة بالصور الأقل جاذبية، وهذا يدعم جزئيًا الصورة النمطية القائلة بأنّ “ما هو جميل هو جيد”.
ومع ذلك، فقد أشارت النتائج إلى أنّ عملية التعاطف الصريح والضمني مع الألم قد حالت دون إدراك الجاذبية، أي أنّ إشارات الألم في الوجوه تقلل من إدراك الجاذبية خاصة في الوجوه الأكثر جاذبية، وهذا يدعم فرضية “التهديد بقيمة الألم”، والتي تعني أنّ إدراك ألم الآخرين وإصابتهم يمثّل تهديدًا محتملًا للذات، مما أدى إلى استثارة نظام كشف الخطر عند المراقبين، وربما تنشيط استجابة تدل على النفور. وهذا يعني أنّ كلًّا من صور الوجوه الجذابة والصور التي تبدي إشارات الألم، تجذب انتباهنا تلقائيًا بشكل أسرع وتحافظ عليه مدة أطول. وعلى الرغم من ذلك، فعند تقديم هذه الصور في وقتٍ واحد فإننا نخصص تلقائيًا مزيدًا من الاهتمام للصور التي تبدو متألمة أكثر من الصور التي تبدو أجمل.
إذًا وحسب نتائج هذه الدراسات، فالناس حقًّا تتعاطف مع الأجمل شكلًا أكثر من الأقل جمالًا، وهذا ما يدعم الفرضية القائلة بأنّ “ما هو جميل هو جيد” لكن لماذا؟
هل الأجمل أفضل؟ لماذا نتعاطف مع الأشخاص الأجمل والأكثر جاذبية؟
تلعب الجاذبية الجسدية دورًا أساسيًا في تكوين التقييمات الشخصية، إذ غالبًا ما يتم الحكم على الأشخاص الجذابين بشكل أفضل، مثل قدرتهم على النجاح الوظيفي أو الرضا الزوجي وغيرها. فالصورة النمطية القائلة بأنّ “ما هو جميل هو جيد” أو “الأجمل أفضل” تشير إلى أنّ الأشخاص الجذابين غالبًا ما يُنظر إليهم على أنهم يتمتعون بالعديد من سمات الشخصية الإيجابية، ويتحلون بميزات أخلاقية أفضل. ومن وجهة نظر تطورية، فقد تشير الجاذبية الجسدية إلى خصوبة أكبر، أو صحة أفضل، أو مناعة أقوى، أو جينات أفضل وأكثر جودة.
وعلى ما يبدو فإنّ رؤية الوجوه الجميلة عند تقييم جاذبية النماذج تنشط نظام المكافأة في الدماغ وتشكل محفّز مجزي، كما تثير استجابات عاطفية إيجابية، وتؤدي إلى حدوث تنشيط في عدة مناطق من هياكل الدماغ مثل القشرة الأمامية، والقشرة المدارية الأمامية (الفص الجبهي الأمامي)، والنواة الذنبية، والنواة المتكئة، والمنطقة البصرية.
وفي الختام، يبدو أننا منحازون بيولوجيًا للأشخاص الأكثر جاذبية، وهذا ما قد يدفعنا للتعاطف مع الأجمل شكلًا أكثر من الأقل جمالًا، لكن ومع ذلك، علينا دومًا التذكّر أنّ التعاطف ليس أمرًا فطريًا فحسب، بل يمكن تحسينه وإعادة توجيهه وتعليمه.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.