الرواية المرعبة The Invention of Sound: جديد العبقري الأمريكي تشاك بولانيك لعام 2020

تحية طيبة لمحبي الأديب صاحب التحفة الفنية وراء فيلم نادي القتال – Fight Club الخالد. أما بعد، فهذه مقالة عن تشاك بولانيك – Chuck Palahniuk؛ وحيد دهره ذي الشهرة العظيمة والإنجازات الكبيرة والأسلوب المفرد. وقد تكرم المترجمون بنقل أربع من رواياته إلى العربية هي: نادي القتال والناجي الأخير ويوميات وأغنية المهد. اليوم نتحدث عن روايته الجديدة The Invention of Sound التي صدرت منذ أسابيع ولم تزل طازجة ساخنة، وهي نص مفزع يثير التقزز كما يثير الفكر ويوصف بالاختلال كما يوصف بالإمتاع.

نرشح لك قراءة: 20 عامًا على فيلم Fight Club: ما الذي تعرفه حقًا عن نفسك، إن لم تخض قتالًا قط؟

هل تذكر مشاهد الكواليس التي كانت تعرض في ختام أفلام جاكي تشان؟ لا؟ أما أنا فأذكرها، وقد كان صدقها وما فيها من ضحك عفوي وإصابات حقيقية لا تمثيل فيها يثير حماستي ويمتعني، أكثر أحيانًا من الفيلم نفسه الذي كانت ترهقني ملاحقة سطور ترجمته الطويلة المتسابقة اللاهية عن الصور.

النظر للكواليس شهوة عادية، لأن الإنسان يفترض أنها تشبع فضوله، ولأنها بطبيعتها تناقض الادعاء الذي هو وظيفة هوليوود ورأس مالها، وتكشف ما وراء طبقتها الظاهرة من حقائق. لذا كانت الأعمال الفنية والأدبية المسلطة للضوء على باطن صناعة السينما والتلفزيون كبيرة الحظوة عند الجمهور مستقطبة لقطاعاتهم دون جهد. وإني لأذكر مسلسل Entourage الذي بدا لي عند مشاهدته حلقة واحدة تتكرر بلا نهاية، لكنه ظل محتفظًا بعامل جذب كونه نافذة يطلع منها كل مشاهد على ما يقبع وراء مسلسلاته المفضلة ونجومه المحبوبين.

من جهة أخرى، الفن بصوره المتعددة ينشأ كثيرًا عن المعاناة. بالطبع لا قاعدة عامة تجبرنا على الاعتقاد بأنه لا ينشأ عن راحة، لكننا نستطيع أن نلاحظ عند التركيز أن المنشأ رديء في أحيان لا تحصى. وفي مكان متطرف مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وتحت مظلة حرية يركض الفرس فيها ليالي ولا يغادرها، يسهل الاعتقاد (وما نراه في أعمالهم يدعم الظن) بأن المنشأ المذكور أشد سوءًا وغرابة. ولشدة استقرار العلم المذكور في نفس المرء فإنه قد ينظر إلى عمل مثالي بديع النسج فيكون أول وأكبر ما يتساءل عنه هو: ما مدى عفونة المصدر الذي أتانا منه هذا القدر المعجز من الجمال؟

إذًا يجتبي البارع تشاك بولانيك هذه الزاوية في روايته الحديثة التي تعالى ارتقابها لوقت طويل والمسماة The Invention of Sound، والتي يخبرنا غلافها الخلفي أنها (في السياق الخيالي طبعًا) فاضحة لأخطر سر أخفته هوليوود في حياتها.

نرشح لك قراءة: روايات تثير شهيتك للقراءة: أفضل روايات الرعب الصادرة في عام 2020

إن بولانيك (والبعض يكتبه بالانيك كما ترى في الصورة) لساخر عتيد، ولسوف تكفيك يا أيها القارئ صفحة واحدة تختارها عشوائيًّا من بين أعماله العديدة لتلحظ الأمر، ثم إنك سوف تتساءل عن مدى سُقم نفسه وتأصل الشر فيها فيبدر عنها هذا الكره كله. لا تسِئ فهمي رجاءً، ولا يخدعنك ظاهر مقالي فتحسب أني أعيب الرجل أو أتتبع عورته، إنما أنا محب بهره الحُسن، ومثلي يتعقب الأشياء إلى أصولها ولا يتورع عن التصريح بما في نفسه وإن تجاوز بعض تلك الحدود الباهتة.

ثم لا تزعم أنك شاهدت نادي القتال ولم يخطر ببالك أن كاتبه مختل على أقل تقدير. منذ أيام خرجتُ على أخي قائلًا إنني لو امتلكت معشار أفكار أجاثا كريستي الشيطانية الملتوية لجربتها في الواقع بلا ريب، فوصفُ الاختلال مجامل في هذا السياق، والحكم المعتبر إنما يكون على أفعال الإنسان لا المستقر في قعر وعيه الخارج بين حين وآخر في كتابته. وما ينفعني لو أنه شديد الصلاح أو الفساد؟ إنما يعنيني أن تُعمل حروفه في نفسي عملها وإن كان يقتل الأبرياء كل مساء!

نرشح لك قراءة: أشهر روايات أجاثا كريستي: أعظم كُتّاب أدب الجريمة أو الأدب البوليسي في التاريخ

طيب، هوليوود من جديد. ماذا كنا نقول؟ نعم، يستدل العاقل بما كان على ما يكون، وإن نحن شئنا التنبؤ بما تحتويه رواية The Invention of Sound يمكننا ببساطة الرجوع إلى منجَزات الرجل وتقليب النظر فيها. ما يثير الحماس بشأن الرواية أن الخجل الزائد ليس من شيم بولانيك، يكفيك أن تعرف أن ما قرأناه في رواية نادي القتال المروعة (ترجمها أحمد خالد توفيق لدار ميريت) هو تخفيف للأصل الذي قرأه الناشر، وطلب من الكاتب تخفيفه فلا يفقد تعاطفَ القارئ مع قضيته، وقد قرأت شيئًا عن المحذوف لكني لا أحسب ذكره يليق بالموضع.

إذا أراد تشاك بولانيك التصريح فسوف يكون تصريحه تامًّا غير منقح، سوف يشرِّح هوليوود في غير رحمة متحررًا من كل قيد. هي فرصة ذهبية للراغب في الصدق وإن بلغ حدًّا مؤذيًا. إنه الرجل عينه الذي أطلق لنفسه العنان في الناجي الأخير (ترجمها هشام فهمي لدار التنوير) فتحدث عن خبال الطوائف والتجارة بالدين والطبقية وجنون العالم المعاصر وصناعة الرمز والإعلام والطب النفسي والانتحار وقائمة لا نهاية لها جسَّد بها حقيقة واحدة ساطعة، هي أنه ليس من المعجبين بهذا العالم أو القابلين بحدوده.

نرشح لك قراءة: الحكايات بين الأدب والسينما: عن تحويل النص الأدبي إلى نص سينمائي!

هل يمكن أن نرى روايتنا هذه على الشاشة الكبيرة أو نسمع خبر شراء نتفليكس النشيطة لحقوقها؟ صعب، وسأخبرك السبب: الرواية مثيرة للاشمئزاز بامتياز، يميزها هذا الرعب المعوي الحامل على الغثيان. الكثير من الصور الخيالية التي ستعلق بذاكرتك حتى تلعن كاتب المقال وكاتب The Invention of Sound وناشرها. لو كان لصاحبنا سقف من قبل (ولم يكن) فقد تخطاه هذه المرة. وهذا النوع من الأعمال الأدبية، خاصة مع نبرة تشاك بولانيك المتسخطة المقتحمة للمناطق المتفق على اجتنابها، ليس بالنوع الأدبي الذي ترحب به هوليوود بذراعين مفتوحتين، سيما وجزء من الحكاية يرتكز في أحشائها.

إذا عدنا ببصرنا إلى الوراء سنرى أن حظ بولانيك مع السينما لم يكن كبيرًا. فبعد نادي القتال – Fight Club الذي هو بلا شك أحد علامات السينما عبر التاريخ (وهو الحادي عشر على قائمة أعلى الأفلام من حيث تقييم المشاهدين على IMDb)، ثَم فيلم آخر محدود النجاح مأخوذ عن روايته Choke حمل الاسم ذاته وعوَّض ميزانيته بالكاد. هناك أفلام قصيرة مقتبسة عن بعض أعماله -بشكل جزئي أحيانًا- لا نصيب لها من الشهرة.

أما رواية Lullaby التي ترجمها هشام فهمي بعنوان أغنية المهد فقد أُعلن عن تحويلها مستقبلًا إلى فيلم لا نعلم موعد صدوره، وكذا هو الحال مع رواية Snuff التي -كسابقتها- قد سُمي مخرجها وكاتبها دون إشارة إلى ميعاد ننتظر خروجها للعلن فيه. أخيرًا نذكر أن رواية الناجي الأخير – Survivor كانت في طور التحويل إلى فيلم لما وقع حادث الحادي عشر من سبتمبر، وكانت من بين المشاريع التي لم تقم لها بعد مرور الزوبعة قائمة (لاحظ أن خطف إحدى الطائرات جزء محوري من الرواية).

نرشح لك قراءة: في ذكرى الفاجعة الأمريكية: أهم 7 كتب ناقشت أحداث الحادي عشر من سبتمبر

هل أنت مستعد للحظة سرد ملخص حبكة الرواية؟ هي عن رجل خُطفت ابنته فقضى من الزمن سبعة عشر عامًا في كمد. هي إذًا حكاية عن الفقد والفراغ الذي يخلفه، عن العيش في مآسي الأمس والانفصال عن الحاضر، عن التشبث المرَضي بالذاكرة والتعلق بالبلاء في غير رفق. لكن مهلًا، هي كذلك رواية تشويقية مرعبة عن عالم الفن المنحرف المريض، والقارئ يتلقى هذا حين يشاهد البطل يتتبع مغتصبي الأطفال والمتاجرين بهم ليذيقهم الويل، ثم بشكل أخص حين يدخل عالم هوليوود متعقبًا خيطَ بحثٍ واعدٍ فتنكشف له طبقات الفظاعة المذهلة واحدةً تلو أخرى.

رواية The Invention of Sound هي رواية من النوع الذي يتحدى قوالب تصنيفه فلا يمكن رده إلى أصوله، وإن صاحبها تشاك بولانيك ليمارس ما عودنا عليه من جرأة في الطرح وجمع للغرائب المبكيات رغم الضحك، خاتمًا إياها بنهاية مشبعة احتوتها ورفعتها. هل قرأت يومًا رواية تشويق حفزت فكرك وفطرت قلبك وانكمشت لها أمعاؤك؟ هل تأثرت بكتاب رعب فحملك على البحث على النت على ما فيه من أوهام بدت لك حقيقية إلى حد مفزع؟ لسوف تسحرك هذه التجربة بشخصياتها العجيبة المحكومة بهوس قابض.