تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

فيلم وداعًا جوليا.. ألم يحن الوقت لنتأمل الأخطاء التي ارتكبناها؟

goodbye julia arageek film oscars
نهلة أحمد مصطفى
نهلة أحمد مصطفى

8 د

"خرجت من منزلي يوم إعلان الانفصال، وجدت الحياة تسير كأن شيئًا لم يحدث".. هكذا تحدث المخرج السوداني "محمد كردفاني" في لقاء حديث معه عن اللحظات الأولى التي كانت بمثابة الشرارة الملهمة لفيلمه الروائي وداعًا جوليا.

الفيلم السوداني الأول الذي يصل إلى مهرجان كان السينمائي الدولي ويحصل فيه على جائزة الحرية، بجانب العديد من الجوائز الأخرى. والفيلم الذي سيمثل السودان في ترشيحات الأوسكار لعام 2024. وهذا الاستقبال الحافل هو السبب وراء إعلان الممثلة الكينية "لوبيتا نيونغو" نجمة  Black Panther انضمامها لفريق عمل وداعًا جوليا كمنتج منفذ، سعيًا منها إلى إيصال رسالة الفيلم إلى العالم أجمع. 

ويقول "كردفاني" إن الفيلم كان مجرد خواطر مكتوبة في أحد أدراج مكتبه منذ حدوث الانفصال بالسودان عام 2011، بجوار العديد من الخواطر والكتابات الأخرى التي تحول اثنان منها فيما بعد لفيلمين قصيرين كانا تجاربه الأولى في عالم السينما. يسيطر الواقع السوداني، بطبيعة الحال، على أعمال كردفاني.

في فيلمه القصير السابق "نيركوك" يتتبع الواقع الأليم المحيط بالفتى "آدم" ذي العشرة أعوام الذي يحاول الهرب من المأساة التي تحاصره وبالكاد يجد مفرًا بشق الأنفُس. وفي فيلمه الأخير الطويل "وداعًا جوليا" تجري الأحداث في فترة ما قبل انفصال جنوب السودان وحتى حدوث الانفصال، تلك الفترة التي لعبت دورًا هامًا في حياة كردفاني وشكّلت وعيه بما حوله من جديد. 

 وخلقت داخله تساؤلات ومشاعر عديدة كتبها كلها على الورق واحتفظ بها حتى جاءت اللحظة التي شعر بها أن تلك الكلمات المكتوبة عليها أن تتحول إلى صورة سينمائية، بعد أن أثره سحر الشاشة الفضية، وتملكته الرغبة في إيصال تلك القصص التي يكتبها إلى جمهور أكبر يرى فيها نفسه بشكل أوضح. 

وضع كردفاني أبطال قصته قبيل اللحظة التي تزلزل فيها العالم من أسفله، وخلق لهم منزلًا حيث تدور أغلب مشاهد الفيلم، تكاد لا تدخله الشمس ويحيط به الظلام من أغلب الاتجاهات. يبدأ معهم رحلة محملة بالواقعية والرمزية سواء، يعرف هو وجمهوره إلى أين ستنتهي وكيف، لكنه يعيد بها كتابة الماضي بما يفهمه الآن عن الحاضر ويستخدم سردًا بصريًا مذهلًا يربط بين مصير البيت وشخوصه..

فيديو يوتيوب

 انهيار عالم كردفاني الذي كان يعرفه

على القصص التي تُروى أن تبدأ من نقطة ما، سواء في الماضي، الحاضر، أو المستقبل. والنقطة التي تختارها تحمل على عاتقها مهمة الإخلاص للقواعد التي تحكم الوقت حينها. لكن ماذا إذا كان الحاضر لا يختلف عن الماضي، والرؤية ضبابية بما فيه الكفاية لاستحالة تخيُّل المستقبل؟.. يأتي الفيلم السوداني "وداعًا جوليا" من وقتٍ قد يبدو بعيدًا بعض الشيء، لكنه لا يختلف كثيرًا عن واقع نعايشه الآن.

 تنطلق الأحداث عام 2005 عند اندلاع أعمال الشغب في شوارع الخرطوم بعد إعلان مقتل "جون قرنق" زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، مما تسبب في تأجج مشاعر كلا الطرفين. وعليه فإن حادث بسيط تصطدم فيه "منى" بسيارتها بطفل جنوبي دون أن يسفر عن إصابات بالغة تسبب في مقتل لوالد ذلك الطفل، سانتينو، على يد أكرم زوج منى، وهو الحادث الذي يزلزل ما تبقى من ثبات العائلة السودانية.

تأتي أولى مشاهد الفيلم الذي نتحدث عنه اليوم في "أراجيك فن" من داخل منزل الزوجين "أكرم" و"منى" حيث نرى منى وهي تعد طعام الإفطار لكلاهما، بينما تنشغل بالسؤال عَبر الهاتف عن حفلة لفرقة موسيقية ما تُقام بأحد النوادي التي نعلم لاحقًا أنها تتردد عليها من حين لآخر.

بينما تُلقي منى بعض من الطعام الذي احترق في سلة القمامة. نراها تتطلع إلى الأعلى، وتذهب الكاميرا معها نحو البقعة المتآكلة من السقف والتي يتسرب منها قطرات الماء بشكل متواصل، مما دفعهم إلى وضع دلو أسفل تلك البقعة لاحتواء التسريب.

ذلك التآكل الذي ربما بدأ من فترة ليست قريبة يهدد سلامة المنزل إذا لم يتم إصلاحه. في بداية الفيلم، تتحرك الأحداث بالتوازي بين العائلة السودانية والعائلة الجنوبية. نرى العائلة الأولى تعيش في منزلها المحمي بالبوابة الحديدية والأسوار العالية على الشرفة والنوافذ، بينما تعيش الثانية في خيام غير القادرين على العثور على مكان جيد للإقامة به لفقرهم الشديد، صورتان بينهما اختلاف شاسع ترصده كاميرا كردفاني، وتربط مصير كلاهما بالآخر من البداية وحتى المشهد الأخير. 

بعد وقوع الحادث وإخفاء مقتل سانتينو وكأن شيئًا لم يحدث، وفشل منى في البوح بالحقيقة أو إسكات ضميرها الذي لم ينفك عن تعذيبها، تقوم بالبحث عن زوجة سانتينو، جوليا، وإخبارها أنها تبحث عن عاملة جديدة بالمنزل، لتتمكن من مساعدتها ماديًا، ولكن الأمر يتطور وتسمح لها منى بالعيش في غرفة في فناء منزلهما بعدما احترقت الخيام التي تسكنها جوليا وطفلها داني.

 وبينما تدور محاولات منى لإصلاح ما فعلته، ينشغل أكرم بتآكل السقف ويجلب العمال ويأمرهم بفعل أي شيء في سبيل إصلاحه.


عجز كامل عن التعايش

تدور أغلب أحداث الثُلث الثاني من الفيلم داخل منزل عائلة أكرم، المنزل الذي يقوم على أساس ضعيف يملأه الكذب والتخوين والقيود التي تحول بين أفراده وبين الوصول إلى سعادتهم.

تدخل جوليا إلى هذا المنزل متأملة أن تجد فيه الخلاص من سوء المعيشة، تفتح لها منى غرفة فات على استخدامها سنوات حيث يردمها التراب وتخبرها أن تقوم بتنظيفها والسكن بها، وتدريجيًا نرى تلك العلاقة وهي تتحول إلى صداقة وطيدة، تدفع جوليا فيها منى إلى التحرر من القيود التي يفرضها عليها زوجها، وتقوم منى باصطحاب جوليا معها رفيقة إلى كل مكان، وتقوم بتسجيلها وداني بالمدارس ليتمكنا من إكمال تعليمهما ، بينما لا تزال تمحي أي أثار لكذبتها وجريمة زوجها.

نرشح لك: حارب أعداءك بمبدأ التسامح والعفو عنهم.. قصة فيلم Black Panther: Wakanda Forever
خلال تطور تلك العلاقة، تتعلق جوليا بالمنزل أكثر، تُضيف الدفء عليه بعد أن كانت البرودة قد أكلت منه حتى شبعت، فنرى منى تبتسم وتغني وتتزين لزوجها بمساعدتها، ونراهما يتشاركان بعض الأسرار وحتى لحظات الكذب على أكرم. 

يكرس الفيلم وقتًا لمشاهد داني مع أكرم، نراهم كثيرًا في الورشة حيث يعمل أكرم ويراقبه داني ويتعلم منه، حتى قد تظن لوهلة أنه ولده، أتى إلى البيت كالبذرة التي تم زرعها في أرض بور لا يستطيع أصحابها تخصيبها، وهو الأمر الذي نراه في مشهد زيارة منى لطبيب النساء حين يخبرها أن الحمل قد يكون شيئًا غير ممكنًا لها، وتخفي بدورها الأمر عن زوجها، في رغبة واضحة بعدم الإنجاب منه. 

تلك الصداقة لم تحمي منى من الشعور بالذنب، ولم تتخلى على إثرها عن ممارستها لبعض أشكال العنصرية على جوليا وطفلها، وهو الأمر الذي، وإن تجاهلته جوليا، شعر به داني بقوة سواء داخل المنزل أو في المدرسة.

وقد أولى الفيلم اهتمامًا كبيرًا لما يشعر به هذا الطفل الصغير من ضياع واغتراب وفقدان للهوية، وتتبعته كاميرا كردفاني وهو يحاول ويفشل أن يزيح عن نفسه شعور الانتقام كلما أخبرته منى بكذبة جديدة عن والده، وعيناه التي تلمع بشرار الثأر. لم تتمكن تلك الصداقة من علاج توابع ما حدث قديمًا، والعجز الكامل عن التعايش سويًا دون تفرقة جلية أودى بمصير هذا المنزل.


 الأمل يلاحقه الدمار

"استوقفتني لحظة الانفصال، وصرت أسأل: ألم يحن الوقت أن نتأمل أنفسنا والأخطاء التي ارتكبناها؟"

بدأ الفيلم بسؤال يدور داخل رأس كردفاني "ما الأخطاء التي ارتكبناها وكيف وصلنا إلى هنا؟" وتابع العمل على الفيلم في محاولة لفهم ما حدث آملًا في إحداث التغيير ولو يكون صغيرًا بالعالم حوله.

لكن كما يكون الفيلم تكون الحقيقة، وإذا رفض الشخص مساعدة نفسه، لن تفيد أي مساعدة خارجية له.

يرفض كلا من أكرم ومنى التخلي عن عنصريتهما، سواء كانت واضحة أو مستترة خلف بعض الكلام الأجوف، في سبيل البوح بالحقيقة والحفاظ على أمان بيتهما وحياتهما. تستمر قسوة وغلظة أكرم في جعل الحياة معه تحت سقف واحد شيء أشبه بالمستحيل، ويأكل الذنب منى ويجعلها تذوي أكثر كلما احتفظت بالحقيقة بداخلها لمدة أطول.

وتلتقط كاميرا كردفاني من خلال عيني جوليا الحراك الذي يدور في الشوارع والجامعات وأماكن التصويت بين الجنوبيين عام 2011 للحث على التصويت لصالح انفصال الجنوب، ونرى معها الشعب الذي يريد الخلاص من عقود من العنصرية والعنف والحروب الأهلية، وحينما تعود إلى المنزل نرى الأمور شبه مستقرة، غير العابئين بما يحدث خارج الأسوار التي تحميهم... لكن في تلك اللحظة من الزمن كان الهدوء يسبق سيل من العواصف القادمة.

حدث الصدع الأول لهذا المنزل عندما علم داني بحقيقة مقتل والده على يد الرجل الذي يقيم في منزله، وعندما تفشى السر لم يستطع أكرم أو منى الاستمرار في إنكار جرائمهما، خصوصًا تحت تهديد أحد قادة حركة تحرير الجنوب، وانشقت العلاقة التي قضى أفراد المنزل خمسة أعوام في محاولة لتكوينها وحمايتها من الواقع المحيط بها.

أمًا الصدع الثاني فكان مع خروج جوليا وداني من المنزل، في الوقت ذاته الذي تم فيه الإعلان عن نتيجة التصويت والتي جاءت لصالح انفصال جنوب السودان، وبدأت عمليات خروج الجنوبيين من الخرطوم وباقي مدن السودان.

وجاء الصدع الأخير عندما قرر أكرم الانفصال عن منى بعدما صارحته بكل الأكاذيب التي كانت تخبره بها، ووصولهما إلى نقطة تستحيل العودة منها أو أي محاولات للإصلاح. وعندما يتحرك أكرم مبتعدًا عن منى، يطالع البقعة المتآكلة بالسقف والتي قد عادت للتسريب من جديد، ويكتفى تلك المرة بالتنهد ووضع الدلو إياه مرة أخرى لعله يحتوي المياه المتساقطة.

حال العجز عن التعايش بين كل من منى وأكرم ومنى وجوليا دون الوصول إلى حياة هادئة ومستقرة يتشاركونها سويًا، وبدلًا من محاولات للوصول إلى أرض مشتركة ترضي جميع الأطراف، كان الانفصال هو الحل الوحيد؛ سواء كان هذا على مستوى البيت الصغير الذي تدور فيه الأحداث، أو على مستوى البلد الكبير الذي كان هذا خياره لدرء الصراعات.

إذا عدنا بالزمن إلى تلك اللحظة بالتحديد، التاسع من يوليو عام 2011، كان من الممكن أن نتطلع إلى المستقبل بنظرة متأملة وحالمة، لكننا لم نعد هناك، وفي الوقت الذي بدأ تصوير هذا الفيلم كانت أحوال كل من السودان وجنوب السودان تنحدر من السيء إلى الأسوأ وانهارت جميع وعود الازدهار والسلام والعدالة.

ذو صلة

وفي الوقت الذي نرى فيه "منى" في النهاية قد تحررت من قيود زوجها نهائيًا وعادت للغناء الذي تحب، ونرى "جوليا" عائدة إلى جنوب السودان متطلعة للمستقبل، قرر "كردفاني" أن ينهي فيلمه "وداعًا جوليا" بمشهد أخير لداني الذي لا يزيد عمره عن عشرة سنوات وهو يحمل السلاح وينطلق مع بعض من رجال حركة التحرير، فهو لا يزال يحمل بداخله الثأر والانتقام الذي تغذي عليه دون رغبة منه، ولا يزال الصراع العسكري قائم ووحدهم الأطفال يدفعون الثمن!

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة