التشاؤم النافع: كيف نتعلم فن العيش الحكيم من شوبنهاور؟
7 د
في حوار يدور بين شاب وأبيه، يتحدث الأب عن نفسية الشاب المتشائمة، كاتبًا القصائد في مدح التفاؤل، منتقدًا الشاب. يبدو التشاؤم من بعيد رجلًا كبيرًا متعكزًا على العصا، يعرف ما ستؤول إليه أغلب الأمور، هذا الرجل الكبير هو آرثر شوبنهاور، الذي جاء مرتديًا العباءة السوداء في تاريخ فلسفي لم يتناول ما طرحه شوبنهاور من قبل، ولا ينغمس في الحياة العادية اليومية للبشر بنفس الدرجة، فكيف نقرأ شوبنهاور لنستخلص من فلسفته الحكمة ونتعلم التشاوؤم الفلسفي؟ كيف نوازن نظرتنا إلى الحياة بمزيج حكيم من التفاؤل والتشاؤم؟
اقرأ أيضًا: أغرب الفلسفات وفعلًا ربما تقودك إلى الجنون!
حياته الأولى: لماذا يتشاءم شوبنهاور الثري؟
ولد آرثر شوبنهاور في 22 فبراير عام 1788، في دانزيغ ببولندا، وانتقل مع أبيه هنريخ شوبنهاور إلى هامبورغ في ألمانيا بعد انضمام دانزيغ إلى مملكة بروسيا في عام 1793. قامت العائلة مع الأب الذي يعمل في التجارة ويمتلك الكثير من المال، بجولة حول هولندا بريطانيا وفرنسا وسويسرا، خير فيها الأب ابنه آرثر بالبقاء معه وتعلم التجارة أو التحضير للالتحاق بالجامعة.
اختار آرثر البقاء مع والده وتعلم التجارة، ولكنه ندم بعد ذلك على هذا الاختيار، إذ وجد حياة التجارة رتيبة ومملة. واتجه بعد ذلك إلى الحياة الأكاديمية. لم تلق منتجات شوبنهاور الفلسفية ومحاضراته صدى لدى الطلاب في البداية، وكان يشتهر بخلو قاعة محاضراته من الطلاب بينما تعج قاعة محاضرات الفيلسوف هيجل بالحضور، ما ساهم في دفع شوبنهاور إلى المزيد من الإحباط واليأس، دون أن يدري أن فلسفته ستشكل مسارًا جديدًا كليًا في الفلسفة الغربية.
الملامح التشاؤمية في فلسفة شوبنهاور
أصول فلسفة شوبنهاور
يُعتبر شوبنهاور أول فيلسوف غربي يلجأ إلى الفلسفات الشرقية ليستمد منها الحكمة المنقوصة في الفلسفة الغربية، ليظهر ذلك في حديثه عن الزهد والتصوف والكف عن الرغبات البشرية من أجل الوصول إلى حالة اللا-ألم المأمولة من الحياة في وجهة نظره. يرى بعض الأكاديميين أن فلسفة شوبنهاور لم تكن إلا تغريب للفلسفة الشرقية، وإسقاط لمفرداتها على الإنسان الغربي.
لقد كان آرثر شوبنهاور في الصفوف الأولى من الفلاسفة في التشكيك بشأن العقلانية الإنسانية. فقد اعتبر الفلاسفة من قبله، مثل إيمانويل كانط، العالم يسير وفقًا لقوانين العقل وقابلًا للفهم بالسبب والنتيجة كمنظومة عقلانية واعية. أما شوبنهاور، اعتبر أن العالم يسير بلا غاية محددة، بل بإرادة عمياء يطلق عليها إرادة الحياة، على الرغم من عدم خروجه كثيرًا عن التراث الكانطي واعتباره لكانط معلمه.
إرادة الحياة
تعتبر إرادة الحياة في فلسفة شوبنهاور، كما عبر عنها في كتابه «العالم إرادة وتمثلًا» قوة عمياء، غير عقلانية، عديمة الهدف. على نقيض قوة الوعي الإنساني التي أقر بها الفلاسفة المثاليون قبل شوبنهاور، رفض تلك الفكرة. فالقوة التي تحرك الكون -ومنه الإنسان- قوة غير واعية وهي إرادة الحياة.
تلك الإرادة التي تدفع الإنسان لكل الأنشطة التي يقوم بها، بداية من العمل والطعام وحتى الجنس والتناسل، وهي لا تهدف إلى شيء بعينه، بل هي تهدف إلى الحفاظ على نفسها ودفع نفسها إلى الأمام بصورة مستمرة. فلا عجب إذن أن نرى المعاناة والألم والعذاب ينتشر على مر التاريخ، فإرادة الحياة قوة لاواعية وليس لها غاية، وبالتالي فإنها تحافظ على نفسها بغض النظر عن النتائج التي تترتب عليها. ولا عجب أن نرى الخيبات في علاقات الحب والفشل الذريع الذي تصاب به بعض العلاقات العاطفية، لأنها لم تقم على الاختيار الواعي بل إرادة الحياة التي تدفع الإنسان إلى الحفاظ على نوعه.
الحياة بندول يتأرجح بين الألم والملل
يرى شوبنهاور الحياة، كما ذكرنا، كإرادة عمياء. وفي ظل تلك الرؤية، يستنتج أن الحياة لا معنى محدد لها، وليس هناك إله يحرك العالم بصورة خاصة، ولهذا فإن الوجود الإنساني يسعى سعيًا لانهائيًا إلى اللاشيء. فإما أن يسعى الإنسان إلى تحقيق رغبات مطردة لا سبيل إلى إشباعها بشكل كامل، ليعيش غارقًا في الألم، أو أن يمتلك أدوات إشباع تلك الرغبات، فيعيش في حالة من الملل.
لقد انطلق شوبنهاور من مسلمة غريبة وربما يشمئز منها القارئ، إذ يرى أن البشر لا يختلفون بشيء عن الحيوانات من حيث الأفعال، فكما الحيوانات وكل شيء آخر في الكون، يتحرك الإنسان بفعل إرادة الحياة. إلا أن الاختلاف الجوهري الذي يميز الإنسان عن الحيوان، أن الإنسان حيوان تعيس. فبينما يعيش الحيوان على احتياجاته الأساسية مدفوعًا بإرادة الحياة، يعيش الإنسان مخدوعًا بقوة العقل والوعي اللذان يمتلكهما، لينفذ ما تمليه عليه إرادة الحياة عبر أنشطته المختلفة، غير مدرك لما تفعله به، تعيسًا لإحباطه من شتى النتائج غير المأمولة، وتعيسًا بسبب وعيه بوجوده.
«ثمة خطأ واحد أصيل، وهو المفهوم الشائع أننا موجودون لنكون سعداء. يبدو العالم مليئًا بالتناقضات عندما نعيش على هذا المفهوم. فكل خطوة في الأشياء العظيمة والصغيرة، يظهر أن الحياة لم ترتب لسعادتنا، ولهذا تكون أوجه كبار السن مليئة بالتجاعيد وخيبة الأمل دائمًا».
آرثر شوبنهاور – العالم إرادة وتمثلًا
الحكمة من التشاؤم: كيف يعالج شوبنهاور عبء الوجود؟
التعالي على الحياة البشرية بتقدير الجمال
بعد هذه النظرة الكئيبة للوجود البشري التي قدمها شوبنهاور، أصبح مطالبًا أن يقدم وسيلة لنقاء الذهن بعد أن حطم كل الثوابت التي كان الناس يعيشون من أجلها. فالجنس والعمل والمال وكل المقتنيات والاستهلاك المادي تؤدي في النهاية إلى خيبة الأمل كما ذكرنا، فكيف يمكننا أن نعيش الحياة يا شوبنهاور؟
يرى شوبنهاور أن النقاء الذهني يتحقق عبر التخلي عن الحياة الفردانية ونمط الحياة المادي. ويتحقق ذلك كما يرى في تقدير الجمال، فيستطيع الإنسان الحياة بلا صراعات وبأقل قدر من الألم، والمزيد من السكينة. فبينما يتأمل الإنسان جمال الشيء (مفهومه العقلي) ويتخلى عن التعامل المادي معه، أو يتأمل «المثال الأفلاطوني» إذا صح التعبير، يتماهى معه وينسى فردانيته، فينسى كل الرغبات والمشاعر البغيضة التي تولدها فينا إرادة الحياة.
يسير شوبنهاور في هذا الاتجاه مع معلمه الأديب الألماني الكبير جوته. يرى جوته أنه أثناء التأمل في شجرة، يمكننا أن نتأملها في سياق أنها توفر لنا التفاح الأحمر اللذيذ، فنتعامل بذلك معها تعاملًا فرديًا ماديًا. أما إذا تأملنا في جمال الشجرة والتفاح بصورة عامة، نستطيع تقديرها بصورة جمالية. لا يدعو هذا الرأي إلى التوقف عن تناول التفاح اللذيذ من أجل تأمله، ولكنه يدعو إلى الموازنة بينهما، دون الاستغراق في أي منهما عن الآخر.
الوعي الأخلاقي
يخطئ بعض قراء شوبنهاور عندما يعتبرونه عديم الأخلاق، أو داعيًا إلى العدمية الأخلاقية. لقد اعتقد شوبنهاور بأهمية تثبيط الرغبات الجسدية، وتنمية الحس الأخلاقي للتعالي على الوجود الجسدي. يصرح شوبنهاور بأنه لا يعترض على الأخلاقيات المسيحية، ويضيف إليها الكتب الهندية المقدسة من أجل استنباط القوانين الأخلاقية. ولكنه لا يحصر الأخلاق على المسيحية، إذ يجب على الإنسان أن يعامل الآخرين كما يعامل نفسه، أن يكف عن العنف، وأن يحاول التقليل من معاناة الآخرين ويتجنب السلوك الأناني. وهذه ركائز كل الأخلاقيات الإنسانية في كل الأديان كما يرى.
يستخدم شوبنهاور فكرة إرادة الحياة لتدعيم الوعي الأخلاقي. فعندما يدرك الإنسان أن كل الأفعال نابعة من تلك الإرادة العمياء، يتمكن من إدراك وهم الفرق بين الثري والفقير، وبين المتميز والمضطهد، فينظر بعين أخلاقية إنسانية لهؤلاء، ويتفهم كيف تتجمع معاناة البشرية كلها في كل فرد يعاني، فكل فرد يحمل معه ألم البشرية كلها. يدفع ذلك إلى التعاطف مع الآخرين والإحسان إليهم، والتعالي على إرادة الحياة نفسها.
الزهد وإنكار إرادة الحياة
يعتمد شوبنهاور على تعاليم المستنير بوذا ليوفر رؤية متكاملة لحالة الاستنارة والتمرد على إرادة الحياة. فالجمال والأخلاق توفر تعاليًا مؤقتًا على إرادة الحياة. وعلى النقيض، من أراد التعالي الكامل عليها، والحياة بلا ألم أو ملل، فليتخل عن الحياة المادية لإرادة الحياة ورغباتها التي لا تنقطع. يتحقق هذا في حالة الزهد البوذية، وإنكار الرغبات الجسدية.
ولكن شوبنهاور يؤكد أن تلك الحالة لا يمكن دخولها بالقراءة أو الترف الفكري وحده، بل على الإنسان أن يخوض حربًا وصراعًا مع رغبات الجسد وإرادة الحياة، وأن يقاوم ملذات الجسد فينجح أحيانًا ويفشل أحيانًا أخرى. أو كما يقول «قبل أن يدخل نعيم السكينة بالزهد، عليه أن يمر بجحيم الأنا والجسد».
لقد وفر شوبنهاور رؤية وفلسفة متكاملة فريدة من نوعها في تاريخ الفلسفة الغربية، وأثر في فلاسفة وعلماء نفس من بعده مثل نيتشه وإميل سيوران وفرويد. شكلت فلسفة شوبنهاور منعطفًا في الفلسفة الغربية، ولكن الأهم من ذلك أنها شكلت منعطفًا في فهمنا لأنفسنا وللإنسان، وأيقظتنا من السبات الطفولي الأناني بقدرة العقل والوعي إلى حقيقة اعتباطيّة أغلب الرغبات والسلوكيات المدفوعة بإرادة الحياة العمياء، لنكون أكثر تواضعًا وأكثر تبصرًا، مستخلصين من فلسفته الحكمة التي تساعدنا على «فن العيش الحكيم» كما يقول شوبنهاور في كتابه.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.