روبرت داوني جونيور وهؤلاء أشرار السينما الذين أحببناهم!
7 د
منذ بداية الخلق نشأ النقيض، كيف كنا لندرك النور لولا الظلام، الأبيض دون الأسود، النهار دون الليل، إن التناقض والنقيض أساس من أساسات وجود الكون، ومع نشوق فن القصة.
كان لابد من وجود بطل ووجود البطل يستلزم حتماً وجود عدو له يناقضه في الشخصية ويساويه في القوة، كفولدمورت بالنسبة لهاري بوتر، ليكس لوثر بالنسبة لسوبرمان، دارث فيدار بالنسبة للوك سكايووكر، لا يمكن وجود بطل دون عدو له وإلا لن يكون بطلاً في الأساس.
لا يقتصر وجود الشخص النقيض على فن القصة، إذ أن التاريخ يذكر أولئك العظماء الذين صنعوه دون أن ينسوا أعداءهم الذين ساهموا بشكل أو بآخر في مسيرة حياتهم.
مثل بروتوس ربيب قيصر الذي خانه خيانة ذكرها التاريخ البشري طويلاً وخلّدها شكسبير في مسرحيته الشهيرة "حتى أنت يا بروتوس"، أو الجنرال لويس ستراوس الذي أعاده روبرت داوني جونيور إلى الحياة وإلى ذاكرتنا في الفيلم الذي يحقق أرقام إيرادات خرافية في صالات السينما حالياً أوبنهايمر.
لقد كان داوني مفاجأة الفيلم الحقيقة، ورغم كونه ممثلاً بشخصية مساندة إلا أنه قدم أداء احترافياً رائعاً يوازي روعة أداء بطل العمل كيليان ميرفي ومعاً استطاعا تقديم فيلم سيخلد طويلاً في ذاكرة السينما العالمية.
Oppenheimer
يحكي الفيلم قصة جوليوس روبرت أوبنهايمر العالم الفذّ الذي ينسب إليه اختراع القنبلة الذرية، يتناول الفيلم حياة أوبنهايمر عبر ثلاث مراحل حياتية، قبل اختراع القنبلة وفترة اختراعها والفترة الزمنية التي تلي تفجير القنبلة فوق اليابان.
وبما أننا نتحدث عن فيلم من إخراج وتأليف كريستوفر نولان، فيمكنك توقع السرد الغير خطي دون أدنى شك، يعني السرد الغير خطي أو المتقطع أن القصة تدور بشكل معقد لا يعرف بداية ولا نهاية تقاطع فيه الأحداث باستمرار مع الأحلام والذكريات والهلاوس.
إنه أسلوب نولان المفضل والذي ميّزه عن أي مخرج آخر في عصره، لقد قدّم نولان سرداً معقداً متشابكاً لقصة أوبنهايمر، القصة ليست بداية وسطاً ونهاية بل هي مزيج مربك من الأحلام والخيال، الواقع والحقيقة، الماضي والحاضر والمستقبل، لكن البطل الحقيقي الدائم كان وجه أوبنهايمر المعذّب.
إن السرد معقد، يسير في دوائر ويقفز ذهاباً وإياباً، ويمكن أن يشعرك بقليل من الدوار في الحقيقة، خاصة أن هناك الكثير من المحطات الزمنية التي سيتوجب عليك أن تبحث عنها بنفسك هذا ليس فيلماً وثائقياً، إنه تحفة نفسية سردية.
تتعقب القصة أوبنهايمرعبر عقود بدءاً من عشرينيات القرن الماضي كشخص بالغ، ويستمر حتى أصبح شعره رمادياً.
يتطرق الفيلم كذلك إلى حياته الشخصية والمهنية، بما في ذلك عمله في القنبلة وحياته الشخصية كرجل طائش خائن لزوجته، وخلافه مع ستراوس والصراع النفسي العاطفي الذي عانى منه، لقد رصد الفيلم أهم محطات حياة أوبنهايمر وقدمها عبر جدولين زمنيين.
لا تستغرب فنحن نتحدث عن سيد التلاعب بالزمن كريستوفر نولان، لقد تناوبت الأحداث يين مشاهد ملونة وأخرى كانت بالأبيض والأسود، اللون لا يمثل الماضي والحاضر لو توقعت ذلك، إنه يمثل وجهة النظر التي تروي الأحداث التي انقسمت قسمين، الأول حمل اسم الانشطار وتم تصويره بالألوان وهو تمثيل لنظرة أوبنهايمر الكاميرا لا تترك جانبه أبداً وكل التركيز كان عليه مما يشعرك بالحميمة معه.
أمًا المنظور الثاني فقد حمل اسم الانصهار، إنه أكثر استقامة في السرد وقد تم تصويره بالأبيض والأسود، ويتبع لويس شتراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية وخصم أوبنهايمر، يتداخل المنظوران معاً وتنتقل الأحداث بينهما بشكل مستمر، يصعب حقاً حكاية قصة الفيلم إنه مزيج رائع -رغم تشوشه- من التاريخ والدراما والسياسة والكثير من الصراعات النفسية والحوارات الخيالية.
القصة لا تتطور تدريجياً، إذ أن نولان يرمي بك فجأة في دوامة حياة أوبنهايمر بمشاهد حية له خلال فترات مختلفة، في تعاقب سريع لا تكاد تستطيع التقاط أنفاسك معه، يمكن تشبيه الأحداث بالدومينو كل قرار اتُخذ أدى إلى سلسلة طويلة من الأحداث الأخرى، حتى أنك لا تعرف معها كيف بدأ الأمر بالضبط.
لو كنت تتوقع فيلماً عن القنبلة الذرية ومشاهد حربية وتفجيرات وشرحاً مفصلاً يبرر إلقاء القنبلة، فأنت ستدخل الفيلم الخطأ، هذا الفيلم لا يهتم بالقنبلة بقدر ما يهتم بأبيها الروحي، لقد قدم الفيلم في أكثر من ثلاثة ساعات حكاية الصراع النفسي الذي عاشه روبرت أوبنهايمر والذنب الذي تآكله بعدما رأى ما فعله اختراعه، والهواجس التي عاشها طويلاً وطرح سؤالاً وجودياً لا يزال دون إجابة حتى يومنا هذا، هل كان إلقاء القنبلة ضرورياً حقا؟ لكنه كأي فيلم عظيم لا يقدم الإجابة، الإجابة عندك أنت.
تناوب الفيلم في أحداثه بين شباب أوبنهايمر ومراحل صناعة القنبلة وانفجارها والمرحلة الأهم محاكمة أوبنهايمر التي تم فيها سحب ترخيصه الأمني وتخوينه.
إنها حكاية بروميثيوس الذي ضحى بنفسه كي يهدي البشرية نيران الآلهة فأخذوها كي يحيلوا الأرض جحيماً، أعاد كريستوفر نولان وكيليان ميرفي أوبنهايمر إلى الحياة، وحكيا سيرة حياته المذهلة في فيلم من المرجح أن يترشح إلى الأوسكار عن عدة فئات، إنه فيلم سيصعب حقاً أن يتكرر.
عرض المزيد
إنتاج
2023
إخراج
كريستوفر نولان
بطولة
بعد عرض أوبنهايمر، انتشرت وبكثافة أخبار تؤكد ترشح داوني لجائزة الأوسكار وتشيد ببراعته وموهبته الرائعة، لكن بعض صفحات السوشال ميديا تعاملت مع روبرت داوني جونيور على أنه ممثل لم يسبق له تقديم دور ذي قيمة قبل ستراوس، ولأننا "أراجيك فن" نجد أن من واجبنا تصحيح هذا المعتقد الخاطئ.
روبرت داوني جونيور ممثل مذهل وصاحب موهبة كبيرة عاد وبقوة من مشاكل المخدرات والإدمان التي كادت تفقده حياته، كي يسلب قلوبنا بدور توني ستارك، يظن الكثيرون أن أفلام الأبطال الخارقين تحطّ من قدر الممثل، وتقلل من قيمته الفنية، لكن هذا الاعتقاد غير منصف بأي حال من الأحوال.
إن أعظم نجوم السينما أدوا وببراعة أدواراً مميزة في أفلام الأبطال الخارقين، مثل كريستيان بايل وبين أفليك وروبرت باترسون، كل هؤلاء أدوا شخصية باتمان بطريقة مختلفة لا يجمع بينها سوى روعة الأداء والقدرة الجذابة على سحر المتابعين.
نرشح لك: Oppenheimer.. لغز “ذرة” نولان التي أبكت العالم الأمريكي وأثقلت التاريخ بذنبه!
لو كنت تريد أن تعرف مدى الموهبة التي يمتلكها داوني، فشاهده كشارلوك هولمز في فيلميه الرائعين، أو تمثيله الأسطوري في الفيلم الرائع Chaplin الصادر عام 1992، الذي رصد حياة الكوميدي الأشهر تشارلي تشابلن، ونال روبرت عنه ترشيحاً مستحقاً وبجدارة للأوسكار لذا روبرت داوني جونيور مفاجأة العام هو كلام ظالم نوعاً ما.
نعم روبرت كان مذهلاً في أوبنهايمر لكن السبب الحقيقي لهذا يعود إلى أنه ممثل مذهل ذو موهبة هائلة في الأساس ولا شك أن التحدي الأكبر القادم سيكون ما الذي سيقدمه بعد كل هذا الإبداع، ينبغي على روبرت أن يكون حذراً حقاً في اختياره القادم فالعالم لن ينتظر منه أداءً أقل براعة وقوة من أداءه الأسطوري لشخصية لويس ستراوس.
روبرت داوني جونيور في ثوب الجنرال ستراوس
إن أداء شخصية تاريخية هو أمر يحمل الكثير جداً من المخاطر، فكيف لو كانت الشخصية معقدة غريبة ومهمة جداً في التاريخ الأميركي، كان ستراوس رجلاً عسكرياً تقليدياً، لكن روبرت داوني جونيور ممثل غير التقليدي بلا أي شك، لقد كان ستراوس النقيض الكامل لأوبنهايمر، كلاهما ينحدر من أصول ألمانية يهودية وكلاهما يرغب في دخول التاريخ.
لا يقتصر تجسيد الشخصية البارع على الشكل الخارجي فقط، إن أي فنان مكياج ومؤثرات يحترم نفسه يمكنه تحويل الممثل إلى الشخصية المطلوبة، لقد كانت البراعة في ذلك التناقض المريب الذي يحكم شخصية ستراوس المنافقة، كان أوبنهايمر بالنسبة لستراوس رجلاً كريهاً متعجرفاً متفاخراً لكنه يحتاج إليه.
لذا نراه يتصرف معه بطريقة ودود انقلبت فوراً إلى الكراهية والاشمئزاز بعدما رفض أوبنهايمر تطوير القنبلة الهيدروجينة، لقد استطاع داوني جعلنا مغرمين بستراوس بفضل أدائه المتقن المميز البعيد عن الابتذال، لم يكن داوني بحاجة أن يقول أنا أكره أوبنهايمر.
نرشح لك: بعد تعاونهما في Oppenheimer.. روبرت داوني جونيور يمازح كريستوفر نولان على طريقة صناعته للأفلام!
لقد كانت كل خلجة وكل حركة وتلك النظرات المميتة التي تختفي تحت البرود واللطف المزيف تشي بهذه الحقيقة، خاصة تلك المشاهد التي تجسد محاولاته لتدمير سمعة أوبنهايمر لقد كان روبرت داوني جونيور لا يشبه نفسه إطلاقاً حتى أنك تكاد لا تتعرفه عند رؤيته للوهلة الأولى. يُقال أن أكثر الأشخاص شراً هم أولئك اللطيفون الودودون أكثر من اللازم، ويبدو أن الجنرال لويس ستراوس كان أحدهم.
روبرت داوني جونيور الأشرس بالسينما؟
يشعر أغلب الممثلين بالقلق عند أدائهم لشخصيات ضد البطل، إذ أنهم يخاطرون بالوقوع ضحية البطل الذي يغرم به المشاهدون، أو قد يقعون ضحية الأداء المبتذل الذي ينسف مسيرتهم الفنية نسفاً.
لكن الممثل البارع يفرض وجوده ووجود شخصيته بطريقة تجعلك معجباً بهذه الشخصية الكريهة الشريرة أغلب الأحيان، فقط لأن مؤديها كان ممثلاً رائعاً، وهو ما حدث مع شخصية الجنرال لويس ستراوس، لو أن ممثلاً أقل موهبة من روبرت داوني جونيور أدى هذه الشخصية فلربما كنا سنكرهه كراهية عمياء لا رجعة فيها.
لم يكن روبرت أول من فعلها ولربما لن يكون الأخير وسنذكرك حالاً بنجوم أبدعوا في تجسيد شخصيات كريهة شريرة لكن بأداء متميز جعلهم نجوم العمل الحقيقيين، ولا شك أننا سنبدأ مع الشخصية التي رأى كثير من النقاد والجمهور أن شخصية ستراوس ذكرتهم بها إنها شخصية أنطونيو سالييري من الفيلم الأسطوري Amadeus
- موراي أبراهام بأنطونيو سالييري في Amadeus
قدم أبراهام في هذا الفيلم الأسطوري شخصية تاريخية موسيقية هي سالييري، عدو الموسيقي العبقري أماديوس موزارت، كان أداء أبراهام للشخصية خرافياً.
لم يكتف فقط بتجسيد الشخصية بمنتهى البراعة بل استطاع إظهار الصراع النفسي والعاطفي الذي عاشه سالييري المذنب برغبته في الشهرة والمجد، والمحترق أمام موهبة موزارت التي لا تضاهى ولا ترحم.
لقد كان أداء الشخصية صعباً حقاً، هذا رجل فعل ما بوسعه لتدمير حياة من اعتبره صديقه حتى دفعه لقتل نفسه، بين الذنب والإيمان الأعمى يقاتل سالييري شياطينه وشبح موزارت الذي لم يفارقه طيلة حياته، جاء أداء موراي أبراهام الأسطوري الذي اندمج مع أداء توم هولس الذي جعل الفيلم واحداً من أساطير السينما، وأفضل فيلم قدم سيرة ذاتية لعقود.
- توم هانكس الكولونيل توم باركر في Elvis
يروي الفيلم الصادر عام 2022 سيرة حياة المغني الأشهر في العالم صاحب الشكل الفريد والصوت الرخيم إلفيس بريسلي، جسد العملاق توم هانكس في هذا الفيلم شخصية الكولونيل توم باركر الذي امتلك علاقة غريبة معقدة مع إلفيس، كان باركر رجلا انتهازياً طماعاً أراد صنع ثروة هائلة تفوق الثروة التي حققها عن طريق تدمير عميله بلا رحمة، لقد أفسح باركر المجال لإلفيس كي يصبح مدمناً كما أنه حوله إلى رمز تجاري غير آبه به كإنسان.
لم يكن ممكناً وجود إلفيس دون الكولونيل ولا وجود الكولونيل دون إلفيس إنها علاقة مرضية متكاملة غريبة نجح توم هانكس في تجسيدها، لا تنسى أن توم هانكس كان نجم الرومانسية في التسعينات ومع تقدمه في العمر ازدادت جاذبيته الرائعة، لذا فقد كان أداء شخصية كريهة كتوم باركر مخاطرة حقيقية اتخذها توم هانكس ببراعة قلّ نظيرها؛ على الرغم أنه تعرض للعديد من الانتقادات بسبب قبوله هذا الدور إلا أنه يظل بمثابة محطة فارقة في مشواره المهني.
- خواكين فينيكس الإمبراطور كومودوس في Gladiator
كان خواكين شاباً صغيراً عندما قام بدوره في الفيلم، كما أنه كان ممثلاً مغموراً يقف أمام عملاق تمثيل هو راسل كرو، لكن خواكين أبهر العالم بأداءه المميت لشخصية هي الشر بذاته، الذي يتناقض تماماً مع ملامحه الرقيقة البريئة، لقد قتل كومودوس والده لا يوجد شر يفوق هذا الشر.
لكن الإبداع الحقيقي كان في ذلك الأداء المتوازن الغير مبتذل والذي قدمه خواكين لنا وكان الشخصية المكملة للبطل الرئيسي ماكسيموس المصارع البطل اللذان جمعتهما كراهية متجذرة ظهرت بوضوح تام على الشاشة، لولا وجود شخصية حقيرة ككومودوس لما كان هناك من يحاربه البطل أصلاً ولكانت القصة دون أي معنى إن الشر أشبه بذرات الملح التي تضفي نكهة لذيذة على الحياة.
لا يوجد أي شك أن المصارع كان نقلة كبيرة في حياة خواكين فينيكس كممثل، لكن لولا موهبته الرائعة وتلك القدرة الفريدة على تجسيد شخصيات متنافرة مختلفة، لما استطاع الصمود كل هذه الأعوام في مجال تنافسي صعب، كعالم هوليوود الذي لا يرحم أحداً.
إن ما يجمع هذه الشخصيات جميعها هو أنها شخصيات حقيقية أثرت وتأثرت بشخصيات عظيمة، إن قربك من ذوي العبقرية الفذة سيجعلك حتماً تائهاً في الظلال غير القادر على تخطي وهجه.
هناك طريقتان للتعامل مع هؤلاء إما تدميرهم نفسياً ومعنوياً وإما استغلالهم حتى آخر نفس لقد دخلت هذه الشخصيات التاريخ كشخصيات كريهة بغيضة لكنهم على الأقل امتلكوا ممثلين رائعين لتجسيد شخصياتهم وتذكير العالم أنهم وُجدوا وعاشوا في ظلال الآخرين.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.