المخرج أحمد عبد الله وسينما المؤلف.. الفن بين التجريب والتجديد!
بعد غياب أربعة أعوام منذ فيلمه الأخير، "ليل خارجي"، يعود المخرج "أحمد عبدالله" بفيلمه "19 ب" والذي تم عرضه لأول مرة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي خلال الدورة الماضية، وسيكون أول عرض جماهيري له بالسينمات في الرابع والعشرين من الشهر الجاري.
وهذا يأخذني للحظاتي الأولى من اكتشاف عالم "عبد الله" السينمائي مع فيلم "ديكور" الذي أسرني وخلق بداخلي الرغبة في رؤية المزيد من أعماله، ومع كل فيلم كان تقديري له يزيد، كمخرج ناضج يعي جيدًا ما هي السينما، مخرج قد تستطيع وصف أعماله بالرقة والدفء، أو على الأقل هكذا أفضّل أن أفعل، أفلام تكتنفها أحلام الشباب بجميع أشكالها، والتي بدورها هي من ترسم الخطوط الرئيسية لجميع أفلامه.
نرشح لك: “أحب المغامرة ولا أفضل تقديم مواسم جديدة من أعمالي”.. المخرج كريم الشناوي يتحدث لأراجيك فن
فأحمد عبد الله مخرج منشغل بالشارع المصري، تلك الحكايات التي تشهدها الشوارع كل يوم، ذاكرة الشارع التي يطول عمرها أكثر من أي شخص عاش عليها، والتساؤلات التي تطرحها عند كل زاوية. كما نستطيع أن نرى من خلال جميع أعماله اهتمامه بعالم الشباب وما يدور داخله من صراعات، سواء كانت مع الحياة أو مع أنفسهم، عالم مليء بالأحلام والطموحات التي تتكسر حين ترتطم بصخور الواقع أحيانًا، وتتحقق أحيانًا أخرى.
سينما المؤلف
الأسلوب الذي يتبعه أحمد عبدالله في إخراج أعماله متأثر بشكل كبير بموجة "سينما المؤلف"، وهي في أبسط تعريفاتها أن يكون المخرج هو أيضًا كاتب السيناريو فيصبح العمل بأكمله تحت رؤية واحدة، تعكس أفكار صانعه بكل وضوح دون التخبط بين رؤية كاتب السيناريو ورؤية المخرج، لذلك في أغلب الأعمال التي تُنسب إلى سينما المؤلف نجد أن المخرج هو الكاتب، فينتقل من كونه مجرد "حرفيّ" في نظر البعض، إلى قائد العمل بأكمله الذي يختار القصة التي ستُروى وكيف يريد أن يرويها.
وفي مصر نجد أمثلة كثيرة لمخرجين ينتمون لهذه الموجة، أشهرهم يوسف شاهين، ورأفت الميهي، وداوود عبد السيد الذين قدموا أفلامًا ذاتية للغاية، سواء كانت تعكس ملامح وحكايات من حياتهم الخاصة، أو أفلامًا تكمن خصوصيتها الشديدة في خصوصية أفكارها والمشاعر التي تحملها، وتتفرد بها لأنها أفكار ومشاعر صاحب العمل وحده. وفي الآونة الأخيرة، لم تتراجع هذه الموجة أبدًا.. بل وجدت من يحمل أفكارها حتى الآن. وأحمد عبد الله هو أحد أهم من قدموا تلك السينما في أفضل صورها.
أحمد عبد الله، خريج المعهد العالي للسينما قسم المونتاج، بدأ مسيرته الفنية كمونتير في فيلم "الرجل الأبيض المتوسط" بالإضافة إلى بعض الأفلام الأخرى مثل "رأس الغول" و"الغابة" و"عين شمس" الذي كان آخر فيلم يعمل مونتيرًا به، ليقدم بعدها فيلم "هليوبوليس".. أول أعماله ككاتب ومخرج.
تبع فيلم "هليوبوليس" العديد من الأفلام الأخرى التي هي أيضًا من كتابته وإخراجه، مثل "ميكروفون"، و"فرش وغطا"، و"ديكور"، عدا "ليل خارجي" الذي كان من إخراجه لكن من تأليف "شريف الألفي".
نرشح لك: “مسلسل حرب يجسد قصة واقعية”.. النجم محمد فراج يتحدث عن الكواليس لأراجيك فن
وقد وضعه الكثير من المشاهدين تحت شعار "السينما المستقلة"، ولكن بالإضافة إلى عدم تفضيل أحمد عبدالله لمصطلح السينما المستقلة، فأيضًا نجد أن ملامح السينما الخاصة به تميل إلى أن تكون "سينما مؤلف" أكثر من كونها سينما مستقلة.
لذلك فإن سينما "أحمد عبدالله" تتمتع بقدر كبير من الذاتية، مع بداية كل فيلم من أفلامه نجده يأخذنا من أيدينا ليدخلنا عالم أبطاله، في رحلة نرى من خلالها فلسفته الخاصة عن الحياة، فلسفة تعكس نظرته اتجاه كل ما حوله وتنعكس من عدسة الكاميرا التي يحملها.
مسارات كثيرة لحلم واحد بأوجه متعددة
"أحب التصوير بالقاهرة كثيرًا بشكل عام، فأنا دائمًا مشغول بعلاقتنا بالمدينة، ولا أحب الاستديوهات والأماكن المغلقة، وأحاول أن تكون أفلامي عاكسة لما هو موجود في الشارع"
هكذا قال المخرج في أحد تصريحاته، وإذا تابعت سينما أحمد عبدالله يمكنك أن ترى أنه أحد الأبناء شديدي الانتماء لشوارع تلك البلد، وانشغاله بالشارع المصري ينعكس في جميع أفلامه، فنرى للشوارع كيانها الخاص كأحد أبطال أفلامه. الشوارع هنا تتكلم وتشعر وتنظر إليك، تخاطبك وتحكي لك ما حدث وما يحدث.. لا تقل في أهميتها عن باقي شخصيات أفلامه. وهو أحد أبناء ثورتها التي تظهر بقوة في معظم أفلامه سواء كانت تظهر بملامحها، أو بذكرياتها، أو حتى بتبعاتها التي ألقت بظلالها على كل بيت في مصر.
في فيلم "هليوبوليس" الذي صدر عام 2010 نرى "إبراهيم / خالد أبو النجا" يحمل الكاميرا ويدور في شوارع "مصر الجديدة" يسجّل الحياة هناك، الشوارع والناس، فنرى الشوارع من عيون إبراهيم، ونرى إبراهيم من عيون أحمد عبدالله.. فيندمج الواقع مع الخيال.. ونشعر مع منتصف الفيلم أن لا فرق بين إبراهيم وأحمد عبد الله.. إنهما نفس الشخص، يحمل كاميرته ويصوّر أبطال قصته.
وأبطال قصة كل من "أحمد عبدالله" و "إبراهيم" لا يختلفون، كل منهم مازال حبيس الماضي. إبراهيم، نجوى، هاني، علي، مها، وفيرا.. كل منهم يضع قدمًا واحدة لتتجه نحو المستقبل بينما القدم الأخرى مازالت عالقة في خيالات الماضي، فيما كان وفيما كان من الممكن أن يكون.. يغالبون أقدامهم لتتجه بهم نحو المستقبل لكن الماضي مازال يسحبهم. وأبطال "إبراهيم" من بائعي المحلات، الذي يقف بكاميرته ليحاورهم، مازالوا يتحدثون عن الماضي، كيف كان أفضل، وكيف أن الحاضر والمستقبل لن يكون أبدًا على نفس القدر من الجمال الضائع حبيس الماضي. وقد حصل الفيلم على جائزة "أفضل سيناريو" من مؤسسة ساويرس.
نرشح لك: تعرف على المخرجين المفضلين لقراء أراجيك
وفي فيلمه الثاني، "ميكروفون"، الذي صدر في العام التالي مباشرة بعد "هيليوبليس" وحصل على جائزة "التانيت الذهبية" من مهرجان قرطاج السينمائي، وجائزة "أحسن فيلم عربي" من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يظهر أسلوب "أحمد عبدالله" والتساؤلات التي تشغله بكامل قوتها.. فمازال أبطاله يدورون داخل شوارع القاهرة، هنا يبحثون عن حلم رقيق وبعيد، تتهدم الدنيا من حولهم وما زالوا يتمسكون به، شباب يحلمون بفرقة غنائية ناجحة، وأحلام بقصة حب تكتمل إلى النهاية على الرغم من كل شيء. وفي "ميكروفون" نرى أن الكثير من أبطال فيلمه السابق هم نفس الأبطال هنا.
وقد يكون هذا أحد الأسباب التي وضعت "أحمد عبدالله" في قائمة مخرجي السينما المستقلة، فالأبطال هنا كان أشهرهم هو "خالد أبو النجا" أما باقي الممثلين فكانوا إلى حد كبير وجوهًا جديدة، بالإضافة إلى فرق "الأندرجراوند" التي ظهرت لأول مرة في "ميكروفون" وكانت انطلاقتهم من هنا، منهم الفرقة الشهيرة "مسار إجباري".
تبع ذلك الفيلم، "فرش وغطا"، الذي صدر عام 2013، وهنا يسرد لنا "عبدالله" قصة من داخل أحداث ثورة يناير. هنا القصة تحكيها الشوارع والمباني التي شهدت ما حدث كما لم يشهده أحد من سكانها. فالشاب الذي كان ضمن المساجين الذين هربوا وقت فتح السجون في أثناء الثورة يدور بحثًا عن شخص يحكي له ما رأى، لينقذ صديقه وينقذ نفسه.
في "فرش وغطا"، يختار أحمد عبدالله عن عمد أن يجعل الحوار في الفيلم قليلًا للغاية حتى إننا لا نسمع البطل يتكلم.. فنسمع أصوات الشوارع وحكايات الناس أكثر، وكأن ذلك ما يريد أن يضع تحته الخط ويلفت له الانتباه.. صخب الشوارع وأصواتها أعلى من صوته.. فيتوه هو داخلها. وكأن الشاب هنا، صورة أخرى من صور الواقع لشباب كثيرين غيره، خارج إطار الشاشة، لا يجدون أصواتهم وسط هذا الكم من الصخب.
أما "ديكور" الصادر عام 2014 نرى "مها / حورية فرغلي" التي تختلط عليها الحياة الواقعية مع الحياة المُتخيلَة، لا تعلم كيف تفرّق بينهما، وبدورنا نحن المشاهدين نشاركها هذا التساؤل. وعلى الرغم مما يمكن أن يكون السؤال عليه من سطحية، قد تقول إنه بالطبع يمكن التفريق بين الواقع والخيال.. إلا أن الفيلم يأخذه لبُعد فلسفي أكثر من ذلك.. فيطرح عليك سؤالًا ضمنيًا، ما هو الواقع؟ وما هو الخيال؟ كيف يتنافر الاثنان ولكن في نفس الوقت يمكنهما الانصهار حتى لا تكاد تفرّق بينهما؟
نرشح لك: كيف ابتعد المخرج كريم الشناوي عن فخ التكرار في “الهرشة السابعة” بعد “خلي بالك من زيزي”؟
وسلاسة الانتقال بين ما يُفترض أن يكون "الواقع" و"الخيال"، تلك السلاسة التي لم تصبني بأي تشتت أو بأي لحظة من عدم الفهم، كانت هي أحد أهم العناصر التي أسهمت في خلق ذلك الانصهار الذي نتج عنه شعور المشاهد بتشتت البطلة. وهنا يعطي الفيلم الفرصة لـ "مها" أن تختار، لا يختار بدلًا منها، ولا يخبرها أيهما يجب أن يكون الواقع، بل يعطيها فرصة أخيرة بعد أن تشتت كل شيء أن تختار لنفسها واقعها.
"أنا لا أّدعي أنني أقدم تشريحًا اجتماعيًا بأفلامي، لكن أنا حريص دائمًا على أن أطرح تساؤلات مثل هل نستطيع العيش معًا ومن نحن، وهل نحن قادرون على التفاعل بشكل صحي؟ فهي بحث عن إجابات أكثر من كونها تشريحًا، نحاول صياغتها في شكل حكاية للمشاهد يتفاعل معها وربما يجد معها إجابات"
هكذا تحدث المخرج مع "بوابة الأهرام" عن "ليل خارجي" الصادر عام 2018. يتتبع الفيلم ثلاث شخصيات مختلفة تمام الاختلاف عن بعضها لمدة يوم واحد فقط، يعرّفنا عليها ويسحبنا معها في رحلة تتصدرها "التوهة" التي بداخل كل منها.
فهنا لا يختلف أسلوب "أحمد عبدالله" ، فأبطاله "لا يختلفون كثيرًا عن أبطال أفلامه السابقة وإن اختلفت ملامحهم وظروف حياتهم.
فكلهم يجمعهم التشتت والحيرة، السير في شوارع المدينة التي يشهدون لها في كل مرة جانبًا مختلفًا لم يروه من قبل. فمغامرة "مو"، توتو"، و"مصطفى" لم يكن أحد منهم يريدها أو يتوقع أن تنزلق قدماه إليها، لكنه يجد نفسه داخلها وعليه أن يتعامل معها ويُخرج نفسه بنفسه في آخر الأمر. مغامرة تحاوطها أحلام الشخصيات الثلاث من كل اتجاه، ورحلة نرى منها الشوارع بعيونهم، ونراهم بعيون الشارع الذي ينظر إليهم لا كشخصيات متفردة بذاتها، بل بما تمثله تلك الشخصيات من اختلافات وفوارق عليهم اتخاذ موقف إما معها أو ضدها.
سينما مهمومة بحكايات شوارعها
ما يميز سينما أحمد عبدالله أيضًا، هو اهتمامه الشديد بـ "شريط الصوت".. فكل فيلم من أفلامه نرى شريط الصوت بطلًا آخر بجانب أبطاله. فنعرف الأبطال بأغنية، نرى الشارع بأغنية أخرى، موسيقى تدور دائمًا في خلفية الحياة التي يرسمها، وفي فيلم "ليل خارجي" على سبيل المثال يمكنك أن ترى مصر بأكملها داخل هذا الشريط، فتشعر أنك تشاهد حكايات شعب بأكمله وليس فقط أبطال الحكاية التي تتابعها على الشاشة.
سينما أحمد عبدالله مميزة جدًا، وتَميزُها يكمن في أنها نابعة من قلبه، والذي هو بدوره يحمل الشارع المصري بأكمله داخله.. فترى سينما ذاتية للغاية ولكن في ذاتيها تحوي الذات الخاصة لكل مشاهد تقع عيناه على كادر له ويقرر أن يذهب مع أبطاله في رحلتهم. أبطال مهمشون داخل حياة قاسية، يجوبون الشوارع بحثًا عن أجوبة تارة، وعن أسئلة تارة أخرى، يخسرون مرة ويربحون مرة. حكايات قابلة للتأويل كيفما يراها كل مشاهد، وأفلام حتى وإن لم تتوحد مع أحد أبطالها، فإنك تعلم جيدًا أنه يمكنك أن تصطدم في طريقك مع أحد منهم.
أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.